رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

Run Lola Run.. الحب هنا والآن

السيولة والكثرة وفوضى المعلومات التي يشهدها العالم في السنوات الأخيرة تحاول أخذ يد الإنسان وإرشاده إلى طريق الحب والسلام في علاقة الرجل والمرأة غير المفهومة على مر العصور، والتي تنتقل من الحب إلى العراك بسهولة، ومن ثم العودة إلى الثبات.. تنقلنا الصراعات الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي بين نصفي المجتمع إلى البحث عن مخرج آمن للحصول على السلام النفسي، وبهذا الإطار يذكرنا فيلم "Run Lola Run"، من تأليف وإخراج الألماني Tom Tekwer، وإنتاج 1998. 

هذا فيلم مفعم بكل عناصر السينما من خلال "حدوتة" بسيطة، تبدو "ساذجة"، ولكن المخرج تعامل بذكاء شديد مع الحدث، أي أنه فيلم مفعم بالصورة، والموسيقى- الأغاني، والحركة، والحوار، وهذه أربعة عناصر لبناء عالم بصري- سمعي- حسي متكامل في غاية الإبهار والرصانة، فالمخرج اقتطع جزءا من الحياة وبدأ الفيلم ونحن في عمق الحدث.

 

عندما تخبرك الحياة بأنها موجودة هنا

من الصعب الفصل بين الحوارين اللذين دارا بين البطل والبطلة وهما نائمين إلى جوار بعضهما البعض يدخنان، وبين الاحتمالات الثلاثة التي طرحها المخرج.. وفي الواقع، فالفكرة الجوهرية للفيلم تدور بشكل محوري حول العلاقة بين تساؤلات البطل والبطلة الوجودية والشكوكية والإشكالية وبين الحيلة التي اخترعها المخرج عبر التكرار الذكي والمتباين للمشاهد ثلاث مرات متتالية، وطرح احتمالات مختلفة.. وهذا الطرح يبدو كما لو كان حلولا للحياة ولإشكالياتها، ونظر للأحداث ونتائجها من زوايا مختلفة، ولكنه في واقع الأمر طرح لفكرة أخرى تماما، ألا وهي أن الإنسان لديه دائما اختيارات، ولديه دائما إمكانية إصلاح أخطائه.. الفيلم ببساطة يخبرنا على أرض الواقع بأن كلها احتمالات، وكل احتمال له تبعاته وأرصدته وثمنه، وكأنه اختيار.. ويقول لنا إن الحياة أيضا غير موجودة في أي مكان آخر أو مع أي أحد آخر، فهي هنا والآن ومع بعضنا البعض باعتبارنا موجودين ومع بعضنا البعض في هذه اللحظة وفي نفس المكان، وهي حياة تستحق أن نعيشها بكل ما فيها، وإذا لم يكن معنا أحد، فيجب أن نبحث عن أحد يعيش هذه الحياة معنا ويشاركنا إياها ويقتسمها معنا. 

ومن أجل أن يفلت الفيلم، أيضًا، من فخ العدمية التي رسمتها تساؤلات البطل والبطلة وهما نائمين إلى جوار بعضهما البعض، كان هناك تركيز على أن الاحتمالات المتعددة تؤدي إلى نتائج متعددة، والاحتمالات والنتائج تؤدي إلى تراكمات في العلاقة وتعيد شكل الحياة وتمنحها ألوانا وأطيافا متعددة ومفيدة، أي أن تفاصيل الحياة المشتركة بحلوها وبمرها وبجنونها وبثقلها وبحماقاتها تصنع رصيدا يجعلنا نحافظ عليها، وربما يغرينا بالحفاظ على بعضنا البعض لآخر لحظة، وأن نعالج كل التفاصيل التي يمكن أن تتلاعب بمصير العلاقة وبمصائرنا من دون الوقوع في فخ النصح والوعظ، وإدانة بعضنا البعض، أو إصدار أحكام على بعضنا البعض، أو تهديد بعضنا البعض بإنهاء العلاقة وتدمير رصيد وتراكمات بذلنا فيها مجهودا كبيرا.

خطيئة الاستغناء

لا يوجد في الفيلم "رجال ونساء" إطلاقا، ولا توجد المعركة التقليدية بينهما بأي شكل من أشكالها.. لا يوجد رجل وامرأة يعايران بعضهما البعض ويدينان ويؤنبان ويهددان بعضهما البعض بسبب خطأ أو حماقة من هذا الطرف أو ذاك.. لا أحد يرى في نفسه الأفضلية والأحقية، ولا أحد يعتبر نفسه متميزا لسبب أو لآخر.. لا توجد إطلاقا أي إشارات أو ملامح للاستعلاء النوعي، أو الإحساس بالدونية النوعية.. هناك بشر وقعوا في ظروف محددة ولديهم رصيد من العلاقات يمنحهم القدرة على تجاوز الأخطاء، ومد اليد، بل والإصرار على مد اليد بالمساعدة والدعم.. هناك ببساطة حالة حب تتضح من خلال الأحداث أنها حالة تراكمية عمل الطرفان من أجلها ومن أجل إيصالها إلى هذا المستوى من التفاني.. هناك أيضا تساؤلات مهمة تتعرض لاختبارات حياتية قاسية وصارمة تعادل الحياة نفسها، وفي الوقت نفسه نجد أن الحياة بتفاصيلها وقسوتها ومكرها هي التي ترد على هذه التساؤلات التي تبدو "ساذجة" أو مضيعة للوقت، وذلك من أجل أن تظهر تساؤلات جديدة.. هذه الفكرة تحديدا تمت الإشارة إليها من خلال نص صوتي في بداية الفيلم.

هذا الفيلم يخرج لسانه بسخرية لأصحاب فكرة الاستغناء في العلاقات الإنسانية بشكل عام، وفي علاقات الحب على وجه الخصوص.. وهذا على اعتبار أن علاقة الحب هي أهم علاقة محورية بين البشر، شئنا هذا أم أبينا، أو حتى أظهرنا استعلاءنا واستغناءنا.. هذا فيلم مهم وذكي وخفيف ومبهج جدًا.