رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حليب أسود

سلمى الريس
سلمى الريس

«دستور، يا مباركين»، شهقت جدتى عندما توهجت جوهرتان خضراوان من كرة الفراء الأسود القابعة فى قعر الصندوق. «أين وجدتِ هذه الشيطانة؟».

لم أخبر جدتى أننى وجدتها بالقرب من مقلب القمامة، وهى بدورها لم تنتظر ردى: «يا لطيف» ثم أردفت وهى تبسمل: «جنيّة».. وعلى الرغم من أننى لا أستسيغ آراء جدتى، إلا أن تعليقها هذه المرة كان ملهمًا.. ألهمنى الاسم الذى كنت أبحث عنه لقطتى الجديدة: جينى. 

منذ سنين وجدتى تتنقل بين بيتنا وبيت عمى.. «لا أستطيع أن أجلس وحدى فى البيت بعد المرحوم،» قالت فى ثالث يوم من عزاء جدى. توصل أبى وعمى إلى اتفاق: أن تجلس فى بيتنا شهرًا وعند بيت عمى شهرًا، ولكن ذلك الاتفاق الذى عقده الشقيقان لم يطبق سوى لأشهر معدودة؛ إذ أعيد تأويله، ليناسب سعة صدر كل من الكنتين. وهكذا أصبح شهرنا شهورًا وشهر بيت عمى أيامًا. 

فرحنا فى البداية بوجود جدتى بيننا، ثم ذوى ذلك الفرح، ثم تحول إلى تأفف، ثم إلى صمت؛ صمت نواجه به أوامرها وإرشاداتها، ونتواطأ به مع الضيق الذى حاصر أمى. «تصر أن ترافقنا إذا خرجنا، وتتدخل فى كل صغيرة وكبيرة، وتتابع تحركاتنا فى البيت، لم أعد أطيق» شكت أمى لأمها.. «اعملى واجباتك بالأصول، ولا تعيريها اهتمامًا أكثر مما يجب، ثم إنها لن تعيش إلى الأبد،» أجابتها. 

سعدت أمى بالقطة، لا لأنها من محبى القطط، ولكن لأنها أخرجتنا، أنا وأخى، من قوقعة المراهقة وأصبحت موضوعًا لأحاديث ومشاريع.. نتآمر معًا لتحميمها، نضحك معًا على جنونها، ونبتكر معًا ألعابًا معها. حتى أبى، الذى من عادته أن يتوجه فور الانتهاء من الغداء إلى سريره لينال قيلولته المقدسة، حتى هو أصبح يجلس معنا ليداعب جينى أو ليمر بيده على شعرها الفاحم الطويل. 

الوحيدة التى لم تحب جينى كانت جدتى. «بسسس، اذهبى»، ثم تدفعها بساقها بعيدًا عنها فى جلستها على المقعد الذى تقضى عليه نهارها.. كنت أشعر أن جدتى تصب نقمتها على جينى بسبب تجاهلنا لها، وغيرتها من حب أبى لأمى. «أنت تتكلم مع هذه الجنية أكثر مما تتكلم معى،» قالت مرة لأبى.. «سلامة قيمتك يا حجة،» رد بينما هو يرمى حزام الروب إلى جينى، ويبتسم ويراقبها وهى تقفز عليه كنمر صغير، وتعضعضه. لاحظت أن جدتى نظرت إليه طويلًا مترقبة كلامًا يكمل به جملته، لكنه لم يفعل.

كبرت قطتنا بسرعة.. بأسرع مما كنا نتوقع.. وعندما ارتفع مواؤها الشاكى فسرته جدتى «قليلة الحياء تريد زوجًا».. أعقب المواء يوم من الصمت اختفت فيه.. بحثنا عنها فى البناية وسألنا بائعى الدكاكين التى حولنا بلا جدوى.. شعرنا بغيابها ثقيلًا وآوينا إلى غرفنا مبكرين، وعندما أطل رأسها الأسود من باب الشرفة فى صباح اليوم التالى، تنفسنا الصعداء. 

عادت جينى، ولكنها لم تعد كما كانت. فارقتها طفولتها فى يوم وليلة، وتحولت إلى امرأة كسول، تقضى يومها ممددة فى بقعة الشمس التى تتسلل إلى أرض غرفة الجلوس بعد الظهر، ثم ما لبثت بطنها أن انتفخت.. «الجنية ستلد لكم جنيات» قالت جدتى. «الأفضل أن تسربوها. هل سيصبح هذا البيت ملجأ للقطط؟» أكملت وقد وجدت عذرًا لتفصح عن رغبتها بالتخلص من القطة. لم تجب أمى، ولكنها، وكما دأبت على معاندة جدتى بلا كلام، أعدت الشرفة لتكون بيتًا لجينى وأولادها. كرتونة بها قصاصات من أثواب قديمة، ووعاء للطعام وآخر للحليب، وعندما تعالى مواؤها الموجوع، سدت أمى باب الشرفة ومنعتنا من الدخول.. «دعوها تلد بلا إزعاج، وإلا ستحمل أولادها بين أسنانها وتهرب».

فى صباح اليوم التالى، جلسنا أنا وأخى القرفصاء على باب الشرفة حابسين أنفاسنا، نتأمل جينى وهى مستلقية وقد أغمضت عينيها فى تلذذ، كان بطنها يعلو ويهبط فى إيقاع هادئ مريح، بينما دفنت مخلوقات صغيرة أشبه بالفئران رءوسها به.. شعرت بجرجرة رجلى جدتى الثقيلتين تقترب من باب الشرفة، ثم بظلها يجثم فوقنا.. رفعت رأسى فرأيت على وجهها تعبيرًا أراه لأول مرة.. رأيت حنانًا يفيض من عينيها وهى تتأمل القطة.. لا أدرى لماذا، ولكنه جعلنى أفكر بالحليب الذى لا بد أن يفيض الآن من أثداء جينى. 

مرت الأيام تباعًا، وتحولت الفئران إلى أربع قطط صغيرة تدور فى الشرفة. تتقافز، وتتعارك، وتعضعض ذيل جينى؛ فتزجرها بوقار الأمهات، ثم تنهض لتتشمم أحدها أو تلعق فراءه.. أصبحت عائلة جينى مصدر متعة وتسلية لنا جميعًا وبالأخص جدتى. طلبت منى أن أضع لها أحد كراسى المطبخ فى الشرفة، وصارت تقضى وقتًا طويلًا وهى تتأمل جينى وأولادها.. ضبطتها مرة وهى تصب فى وعاء القطط كوب الحليب الذى دفأته لها أمى للفطور، ومرة أخرى وقد لاحت على ما تبقى من شفتيها الرقيقتين ابتسامة، بينما هى تتحسس فراء واحدة منها تجرأت وقفزت إلى حضنها الوثير. «الحمد لله أنها وجدت ما يشغلها عن مراقبتنا،» علقت أمى بخبث، ولكن أبى كان له رأى آخر: «يجب أن تبحثوا عن بيوت أخرى لإيواء القطط الصغيرة، لا نستطيع أن نحتفظ بها أكثر من ذلك».. لم نعترض، كنت قد وعدت صديقتى بواحدة، أما أخى فتحدث عن أنه سيضع صور القطط على موقع للتسويق الإلكترونى.. مَن يعلم، قد يستطيع أن يكسب ببيعها بعض المال؟.

كنا فى غرفنا عندما سمعنا ذلك الصوت.. لم يكن مواءً ولا صياحًا، بل نحيبًا.. خرجنا جميعًا ووقفنا مذهولين، شاهدنا جينى وهى تدور حول نفسها كالمجنونة، بينما يتردد صدى عويلها فى الشرفة الفارغة.. كانت تروح وتجىء وكأنها لا تصدق أن أبناءها قد اختفوا.. دخلت إلى غرفة أمى، قفزت فوق التسريحة فسمعنا صوت زجاج يتهشم على الأرض، خرجت منها إلى غرفة الطعام وأنشبت مخالبها فى المفرش المطرز، مد أخى يده لينزعها عن المفرش، ثم جذبها وهو يصيح ألمًا بعد أن غرزت أنيابها فى لحمه. دخلت غرفة الضيوف، فأطلقت أمى صرخة استغاثة عندما رأتها جالسة فى وضع التبول على سجادتها الثمينة.. سارعت أنا إلى المكنسة ورفعتها أهدد بها القطة، ولكننى تراجعت خطوتين عندما التقت عيناى بعينيها.. كان هناك شعاع شيطانى ينبعث من تلك العينين، وقبل أن أستجمع شجاعتى لأهوى بالعصا عليها، عبرت كالبرق إلى المطبخ، ثم بقفزة واحدة من النافذة إلى المنور، وهربت. 

ظللنا مشدوهين بينما أخذ العويل العجيب بالابتعاد شيئًا فشيئًا، وعندما حانت منى التفاتة إلى جدتى، شاهدتها تغطى عينيها بيديها المجعدتين المعروقتين وتبكى.