رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ابتزاز على بياض».. «مكاتب الديّانة» تسجن النساء بإيصالات أمانة مزيفة (تحقيق استقصائي)

حبس سيدة
حبس سيدة

في فبراير 2021، فوجئت «رانيا.ح»، 37 عامًا، بقدوم مجموعة من رجال الشرطة لبيتها، يطالبونها بالتوجه معهم للتحقيق في الاتهامات المنسوبة إليها من قبل بعض التجار، كانت قد استدانت منهم قروض عدة، ولم تتمكن من سدادها؛ ما جعلهم يكسبون حكمًا قضائيًا ضدها بالسجن لمدة 3 سنوات ونصف.

لم تجد «رانيا» سبيلًا لتوفير قوت أبنائها وسداد نفقات تردد زوجها على عيادات الصحة النفسية ودفع تكاليف المهدئات النفسية باهظة الثمن، سوى دق باب الإيصالات الموقعة على بياض، لتكتشف بعد ذلك أنها قد فتحت باب الجحيم الذي يقودها إلى السجن مباشرة

كان شقيقها الأكبر الذي يعاني من شلل الأطفال يساعدها في سداد معظم الديون، خاصة بعد هروب زوجها المريض من القرية، ولكنه لم يتمكن من سداد بعضهم؛ وذلك لقيام التجار بفرض مبالغ إضافية عن قيمة الدين الأصلي في الإيصالات، على حد وصف شقيقتها «منار» التي تقطن بجوارها في قرية شبرا بلولة بمحافظة الغربية.

وصفت «منار» كواليس القبض على شقيقتها: «أجرى المحامي الذي وكله شقيقنا معارضة لها، وخرجت من القسم بعد قضائها يوم واحد فيه، لكن الشرطة لاحقتها مرة أخرى بعد 3 أشهر، لتصدر المحكمة عليها حكمًا بالسجن لمدة 3 سنوات ونصف، بعد تخلي المحامي عن الدفاع عنها لعدم حصوله على أتعاب المحاماة».

 

قضية رأي عام
لا تزال أزمة الغارمات على رأس قضايا الرأي العام في مصر، والتي تتبنى الحكومة المصرية حلها من خلال توصية اللجنة الوطنية للقضاء عليها تمامًا. 

وكان وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي، في شهر رمضان الماضي، بحصر أعداد المسجونين الفعليين من الغارمين والغارمات ودراسة حالاتهم.

كانت كشفت دراسة صادرة عن المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية في عام 2021، أن ظاهرة الغارمات ذات أبعاد اجتماعية خطيرة، كونها تسلط الضوء على معدلات الفقر بين النساء، وتتسبب في ارتفاع معدلات التفكك الأسري وتشرد الأطفال.

«رانيا» كغيرها من النساء ضحايا جشع التجار والجهل بخطورة الإيصالات الموقعة على بياض، يقفن خلف القضبان، وينتظرن مستقبل مجهول بعد الخروج من السجن، بحوزتهن سوابق تشعرهن بالوصم طوال الحياة.

تقول «منار» في حديثها لـ«الدستور»: «شقيقتي عجزت عن سداد قروض بقيمة 14 ألف جنيه لـ3 تجار منعدمي الضمير، كُل منهم أضاف ما يتراوح بين 3-5 آلاف جنيه على المبلغ المستدان، فضلًا عن مطالبة أحدهم بدفع تكلفة أتعاب المحامي ليتراجع عن تقديم الإيصالات للقضاء».

قضت الضحية سنة ونصف في الظلام الدامس، ذاقت خلالهم مرارة العيش ببعدها عن أطفالها وتدهور حالتها الصحية خاصة بعد معاناتها من التليف الكبدي، نادمة على ما انساقت وراءه من ابتزاز واضح أودى بحياتها إلى الهلاك.

 

ومن خلال خاصية (story map) حاولت «الدستور» توضيح الأزمة باستخدام الصور البيانية.. وللتصفح اضغط على الخريطة التفاعلية التالية:

 

اختراق «مكاتب الديّانة»


على مدار 3 أشهر، وثق «معدا التحقيق» تعرض نساء عدة للابتزاز بكافة أنواعه، كان أغلبهم ضحية تلاعب تجار إيصالات الأمانة بالغارمات، وفرض فوائد بمبالغ مضاعفة للسعر الأصلي، مستغلين إمضاءهن على بياض، وكُل هذا يتم داخل شقق مفروشة ليست تابعة لوزارة التضامن (كما يدّعون)، ويُطلق عليها قاطني المنطقة.. «مكاتب الديّانة».

 

المكاتب التي استغلت حاجة النساء، ووضعت أمامهن المال الذي يبتغون مقابل إيصال أمانة، لم تتخيل إحداهن أن تلك الورقة الصغيرة ستكون في المستقبل أكبر عقبة تهدد مصير حياتها.

بدأت رحلتنا من داخل إحدى الشقق السكنية بمنطقة الطالبية فيصل التابعة لمحافظة الجيزة، والتي رّوج أصحابها لفكرة الاستدانة مقابل إيصالات أمانة موقعة على بياض، لذا توجهنا إلى هناك مدّعين إننا نعمل في جمعية خيرية تساعد النساء على فتح مشروعاتهن وقضاء حاجاتهن.

وطلبنا حينها مقابلة مدير المكتب، لنستعلم منه عن كيفية اقتراض مبالغ مالية لمجموعة من النساء، وبالفعل اطلعنا على كافة التفاصيل التي ذهبنا للحصول عليها، موضحًا في البداية أن هناك نظامين للاقتراض، نظام الفردي الذي يتم تطبيقه مع شخص واحد فقط، يبدأ من 5 آلاف جنيه، ونظام المجموعة الذي يشمل 5 أشخاص فما أكثر، وتبلغ قيمته 4 آلاف جنيه للفرد الواحد.

«النظام الفردي شرطه اتنين ضُمّان (واحد قريب وواحد غريب) مع الشخص اللي هيستلم القرض، وسداد التقسيط شهريًا على مدار سنة حسب المبلغ المتفق عليه، أما المجموعة شرطها تكون في شارع واحد أو منطقة واحدة، وتسدّد 1038 جنيها كل 14 يوما»، وضع التاجر هذه الشروط أمامنا ليؤكد في النهاية أن كُل ذلك لا يتم دون توافر إيصالات أمانة موقعة على بياض.

اتضح خلال جولتنا أن هذا المكتب لم يكن الوحيد في المنطقة التي تواجدنا بها، فبمجرد أن سألنا الأهالي عن مكان مكتب القروض، سرعان ما أشاروا إلى أكثر من مكتب يسهل القروض المالية، ومنهم من وجه نصيحته لنا بعدم التعامل معهم، لأن ضحاياهم كثيرين وتكون نهايتهم خلف جدران السجن.

اعتمد المسؤولين بالمكتب الذي توجهنا إليه، على إخفاء معالم أي شئ يدل عليهم، فهم يجلسون داخل شقة مفروشة كباقي الشقق، لا تستطيع الوصول إليها دون أن يرشدك سكان المنطقة، والذين غالبًا ما يكونوا صيدتهم الأولى، كونهم يعلمون جيدًا مدى احتياجهم للمال.

 

خيانة ائتمان
في الوقت الذي خرجنا فيه من المكتب، لم يشغل بالنا سوى عدد الجرائم التي يرتكبها هؤلاء السماسرة، لذا تواصلنا مع المستشار أيمن محفوظ المحامي بالنقض، والذي أكد لنا أن هناك أكثر من جريمة في هذه القضية، وتُعد «مكاتب الديّانة» خصيصًا هي السبب الأبرز في انتشار الغارمات في مصر، والخطايا القانونية التي يتجاوزها المسؤولين عن هذه الكارثة تتسبب في تخريب الاقتصاد القومي.

قال «محفوظ» إن هذه المنشآت تعمل بدون ترخيص، وعقوبتهم تصل إلى الحبس والغرامة، بالإضافة إلى العقوبات الإدارية بغلق المقر، وفقًا لقانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد، وتخضع جميع فروع  البنوك التي تمارس عملياتها في مصر لأحكام هذا القانون؛ لأن جريمة تقديم القروض تُعد من إحدى وظائف البنوك المحظورة.

وأوضح المحامي بالنقض في حديثه مع «الدستور»، أن هذه الأفعال تشكل في أغلب الوقائع جريمة النصب المنصوص عليها في المادة 336 من قانون العقوبات، وهي إلهام الضحية بوجود مشروع كاذب واستخدام الطرق الاحتيالية، وتصل عقوبتها للحبس 3 سنوات، ولكن الجريمة الأكثر شيوعًا هي التزوير (تغيير الحقيقة في محرر بإحدى الطرق المقررة قانونًا لإحداث ضرر ما).

عقوبة رادعة 
تصل عقوبة تزوير إيصالات الأمانة، ووضع مبلغ ما استغلالًا للإمضاء على بياض، طبقًا لنص المادة 340 من قانون العقوبات، إلى 7 سنوات، فهي ضمن إحدى جرائم خيانة الائتمان، التي زادت معدلات ارتكابها في الآونة الأخيرة.

وشرح «محفوظ» طرق إثبات براءة ذمة الضحية في هذه الحالة: «طعن التزوير يمكنه أن يكشف الفارق الزمني بين التوقيع على الإيصال وكتابة متن الإيصال، ويثبت ذلك عن طريق اللجنة الفنية التي تحددها المحكمة، وفور إثباته تقضي المحكمة ببراءة الضحية، ثم توقع عقوبة خيانة الائتمان أو التزوير حسب الحالة حينها، مع جواز تخفيض الفائدة الاقتصادية إذ تجاوزت الـ7%، وفقًا لحكم المادة 227 مدني».

 

حياة المطاريد

فتاة عشرينية عشقها للعمل الخيري دّمر حياتها، وقضت أيام شبابها ما بين الأقسام والمحاكم وملاحقة رجال الشرطة، فهي أصغر غارمة في مركز إبشواي بمحافظة الفيوم، كانت تعمل بشكل تطوعي في جمعية خيرية مخصصة لتجهيز الفتيات الأيتام المقبلين على الزواج من خلال شراء الأدوات الكهربائية بنظام التقسيط، وتحصل على المال من خلال أشخاص يسهلون القروض المالية، وتعطيهم الأموال من التبرعات التي تحصل عليها الجمعية. 

«إقبال.س» تعاملت كثيرًا مع التجار وذاع صيتها بينهم، فكانت توقع إيصالات أمانة على بياض عند حصولها على القروض، وتأخذ من صاحبة الجمعية مبالغ محددة شهريًا تقدمها لهم، وتكرر ذلك الأمر مرات عدة، حتى جاء اليوم المشؤوم واختفت التبرعات، وأصر أصحاب الإيصالات حينها على استرداد أموالهم، لتكتشف الفتاة وقوعها في صراع شرس، كان تصفية حسابات ألقتها به صاحبة الجمعية دون أي إحساس بالذنب.

بصوتِ حزين رّوت الفتاة قصتها: «صاحبة الجمعية ورطتني وخدعتني وكانت مفهماني إنها بتخليني أمضي على إيصالات الأمانة علشان واثقة فيا، واتصدمت لما لقيت أول تاجر قدم الإيصال للمحكمة بقيمة 180 ألف جنيه، في حين إن أنا اقترضت منه 5 آلاف جنيه بس».

في تلك اللحظة أدركت «إقبال» دخولها المصيدة، وعلمت جيدًا أنه لا مفر لها، وهذا كان واحدًا فقط ضمن عشرات التجار، فهي كغيرها من الفتيات اللاتي ظلمتهن إيصالات الأمانة الموقعة على البياض، فأصبحن غارمات وهن في ريعان شبابهن.

كانت الفتاة تعول والديها المسنين، وتدرس بأكاديمية متخصصة في الإعلام، ولها خبرة في المجال التطوعي تصل لـ4 سنوات، إلى أن صارت إحدى الهاربات من تنفيذ الأحكام، بعد أن شغل اسمها سجلات المحاضر، يطاردها رجال الشرطة لتنفيذ جريمة لم ترتكبها من الأساس.

«هتسجن أكتر من 40 سنة وأنا لسه 23 سنة»، بتلك الكلمات انهمرت «إقبال» في البكاء ولم تستطع السيطرة على سيل دموعها، فقد صدرت أحكام نهائية ضدها غيابيًا، تصل إلى أكثر من 20 حكمًا، ويتراوح كل حكم ما بين الحبس لمدة عامين أو ثلاث، لتعيش في النهاية حياة المطاريد، لا تستطع الذهاب إلى منزلها ورؤية والديها، خوفًا من إلقاء القبض عليها.

 

اختراق «مكاتب الديّانة» - 2
في الرحلة الثانية للبحث عن «مكاتب الديّانة»، توجهنا إلى مقر خفي في منطقة صفط اللبن، ادّعى أصحابه حصولهم على ترخيص من قبل وزارة التضامن الاجتماعي، يسمح لهم بتيسير القروض المالية للمواطنين، وبمجرد دخولنا المكان المذكور، وجدنا عدد كبير من النساء اللاتي يمضين على إيصالات أمانة مقابل الحصول على المال.

وانتظرنا دورنا للدخول إلى المسؤولة عن تيسير القروض، لنطلب منها توفير مبلغ مالي قدره 20 ألف جنيه، لنستمع إلى الشروط هذه المرة، والتي كانت مختلفة قليلًا عن ما قبلها، فالمسؤولة طلبت إيصالات الغاز والكهرباء، وحضور أحد الأقارب كضامن للإمضاء على إيصال أمانة (على بياض)، فضلًا عن الإيصال الأساسي لنا، واشترطت أيضًا أن تكون إقامتنا بالمنطقة أو بالقرب منها.

وقبل إتمام القرض، سيتوجه أحد المندوبين التابعين للمؤسسة لمعاينة مقر إقامتنا، حتى يستطيعون الوصول إلينا في أي وقت. 

وأوضحت المسؤولة أن قيمة السداد الشهري تبلغ 2300 جنيه على مدار سنة كاملة، أي أن العائد الإضافي سيكون قدره 7 آلاف و600 جنيه، وفي حالة عدم السداد في الوقت المحدد، سيضطر المكتب لتقديم الإيصال إلى النيابة العامة.

خرجنا من المكتب هذه المرة متجهين للحديث مع وزارة التضامن الاجتماعي، لتوضيح مدى علاقتهم بهذه المكاتب، وكيف يّروج هؤلاء الأشخاص لهذه الفكرة في خفاء تام وسط الأحياء الشعبية، مستهدفين الأشخاص الذين يعانون من ظروف اقتصادية صعبة، ويعرضون حياتهم للخطر.

إخلاء المسؤولية

أكد مسؤول خاص في الوزارة -فضّل عدم ذكر اسمه- أنهم ليس لهم أي علاقة بادعاءات سماسرة الغارمات، وما يفعلونه هو جريمة واضحة في حق المواطنين، ولا يمكن لأي جهة غير رسمية أن تعمل على تيسير القروض المالية للمواطنين، بخلاف جريمة استغلال إيصالات الأمانة وتوقيعها على بياض للحصول على أكبر قدر من الأموال غير المشروعة.

وأضاف: «يجب على أهالي المناطق التي تتوافر بها مكاتب الديّانة أن يبلغوا أقسام الشرطة التابعين لها عن هؤلاء المجرمين، للقضاء على هذه الأزمة تمامًا، والسعي وراء حل ظاهرة الغارمات بالشكل الأمثل، فمثل هذه الأزمات هي ما تتسبب في ضياع العديد من النساء المصريات».

حديث وزارة التضامن، وما تم إثباته من اتفاقات مع المكاتب.. جعل الأمر واضحًا الآن، هناك مجموعة من الجرائم تُنفذ عبر شبكة عصابات منتشرة في جميع أرجاء الجمهورية، لذا كثفنا البحث حولهم في مختلف المحافظات، واستطعنا الوصول إلى عدد منهم من 7 محافظات مختلفة، عانوا جميعهن من هذه المكاتب و«ورقة البياض».

شركاء في الجريمة
«رشا.س» و«ميرفت.ر»، يقطنان في بيت واحد، كانت رغبتهن الوحيدة هي مساعدة أزواجهن على مواجهة ظروف المعيشة الصعبة، كأي زوجة ليس لها دخل أو وظيفة، فتريد أن تفتح مشروعًا لها أو لزوجها، وكان باب القروض على بياض مفتوحًا على مصراعيه أمامهمن في ذلك الوقت.

توجهن إلى (س.ع) الذي كان معروفًا في إحدى قرى محافظة الغربية والتي شهدت أزمات عدة للنساء بسبب قيام عدد من الأفراد بتيسير القروض المالية للأهالي، وطلبوا منه مبلغًا قيمته 40 ألف جنيه لشراء توكتوك، ووافقن على توقيع إيصال أمانة على بياض، والانتظام بتسديد جزء من المبلغ كل شهر، وبالفعل تم تسديد 20 ألف جنيه، حتى تعرضن لمشكلات أسرية جعلتهن يتعذرن عن سداد باقي المبلغ في الوقت المحدد.

وفي الوقت الذي صارحن فيه صاحب الإيصالات بالمشكلة، ضرب بحديثهن عرض الحائط، وطالبهن بـ37 ألف جنيه في حين أن المبلغ المتبقي كان 20 ألف فقط، ولم يكن أمام إحدى الضحايا سوى بيع قطعة أرض ورثتها عن أبيها لسداد الدين.

استكملت «رشا» الحديث: «روحنا ندفع الفلوس اللي طلبها ونستلم الشيكات، لقينا فيه 6 شيكات منهم ناقصين، وعرفنا بعد كده أنه شاكينا للنيابة بيهم»، لم يجدن وقتها حلًا سوى التواصل مع المحامي الخاص به، ليفاجئن بالتعرض للمساومة على  الوصول لتلك الشيكات، وساومهن المحامي على 7 آلاف جنيه لكل شيك، أي 42 ألف جنيه، وذلك مقابل تقديم إيصال للمحكمة يفيد بسداد الدين، لكنهن لم يملكن أي مال في ذلك الوقت.

سنوات عاشتها الزوجتان في مأساة كبيرة خوفًا من القبض عليهن لتنفيذ الأحكام الصادرة بشأنهن، وبالتواصل مع محمد فوزي محامي الضحايا، اتضح أن هناك مافيا في تلك القرية، تستهدف توقيع السيدات والقاصرات في فخ إيصالات الأمانة الموقعة على بياض.

وأكد أن هذه العصابة مكونة من شخصين (س.ع) وشريكه (خ.م)، وهو المسؤول عن اصطياد الضحايا اللاتي يوقعن على بياض مقابل القروض المالية، ويلجأ المدعوان إلى حيلة إجرامية للتربح المادي، وهي توقيع الضحية على دفتر كامل من إيصالات الأمانة للحصول علي ما تريد، وفي اللحظة التي تتعثر فيها الحالة،يقدم أحدهما الإيصالات إلى القضاء، لكن بعد إضافة مبالغ طائلة عن مبلغ الدين الأساسي.

طلبنا من محامي الضحايا رقم هاتف (س.ع)  الذي أودى بحياة رشا وميرفت وغيرهن للهلاك، واستطعنا إثبات التهمة عليه من خلال اتفاقية مسجلة على لسانه، توضح أنه يتاجر بالقروض المالية وشرطه الوحيد دائمًا هو الإمضاء على بياض، في ظل معاقبة القانون لمرتكبي هذه الجريمة بالسجن المشدد.

الديّانة في ثوب آخر

شهدت جدران المحاكم على دموع وحسرة آلاف الغارمات، ضمنهم مأساة كبيرة عاشتها «وفاء.ج» منذ عام 2016 حتى وقتنا الحالي، إزاء الإمضاء على ورقة بيضاء لم يتخللها سوى توقيعها فقط دون وجود أي قيمة بمبلغ الدين.

البداية حينما كانت تريد شراء مقتنيات منزلية لبيتها بقيمة 8 آلاف جنيه ونصف، الأمر الذي جعلها تضطر للاستدانة من إحدى الموظفات التي تعمل معهم، ولم يكن أمامها سوى أن توقع لها إيصالات أمانة على بياض، وكانت تعطيها مبلغ شهري حتى تعثرت عن السداد 3 شهور متتالية.

«ذهبت إليها يوم ما حاملة في يدي 5 آلاف جنيه، ورغم ذلك قدمت الموظفة للمحكمة إيصال واحد بقيمة 3150 جنيه دون توقيعي على ذلك المبلغ، وكان معها 3 إيصالات أخرى على بياض، زوّرت كل إيصال فيهم بمبلغ قدره 13 ألف جنيه»، عبرت «وفاء» عن مآساتها موضحة أنها حاولت كثيرًا إقناع زميلتها بالتنازل عن القضية، والحصول على المبلغ الأصلي.

«بقالي 5 سنين بتحايل عليها عشان تاخد الـ5 آلاف بتوعها، مش راضية أبدًا"، زاد عبء الحياة عليها وباعت كل مقتنيات بيتها في سبيل سداد ديونها، في حين أصرت الموظفة على محاولة حبسها، ولم تيأس «وفاء» وقامت بوضع إنذار عرض مبلغ في خزينة المحكمة للإيصال المقدم، ولكن لم تقبل الموظفة باستلامه.

واختتمت بصوت ممزوج بالحسرة والدموع : «مهددة بالحبس كل دقيقة.. دمرتلي حياتي إزاي تقبل على نفسها تاخد 7 آلاف زيادة منها لله.. هتستفاد إيه لما اتحبس».

 

الجنس مقابل المال

في الوقت الذي كنا نبحث فيه عن «الديّانة»، وجدنا شبكات أخرى تتخذ منصات التواصل الاجتماعي وكرًا لتنفيذ جرائمهم، مستغلين حاجة العديد من النساء، وكانت من بينهن سمر إبراهيم، صاحبة الـ27 عامًا، والتي كانت تبحث دومًا عن فرصة لتمويل مشروعها الصغير، ولم تجد حلًا سوى البحث داخل جروبات القروض المالية عبر موقع «فيسبوك».

سمر كانت قصتها مختلفة عن الحالات السابقة، فهي لم تتعرض لابتزاز مادي أو الإمضاء على إيصال أمانة، كونها لم تحصل على القرض من الأساس، لأن الشرط الوحيد في الاتفاقية بينها وبين التاجر كان «الجنس مقابل المال».

واتضح أنها ليست الوحيدة التي تعرضت لهذا النوع من الابتزاز الجنسي مقابل الحصول على قرض مالي، فقد امتلأت مجموعات «الإبلاغ عن النصابين» بموقع «فيسبوك»، بالشكاوى المتكررة من عدم التعامل مع أشخاص بعينها داخل المجموعة، كونهم يبتزون النساء جنسيًا بشكل واضح.

فخ الديّانة

من بين استبيان أعدته «الدستور» شمل أكثر من 40 أسرة مصرية، للتأكد من مدى انتشار ظاهرة «مكاتب الديّانة»، تبين أن 87.2% منهم تعاملوا مع المكاتب من قبل، و12.8% لم يتعاملوا إطلاقًا معهم، بينما تعرض 82.1% للابتزاز مقابل إيصالات الأمانة الموقعة على بياض، و17.9% لم يتعرضوا للتهديد أو الابتزاز.

 

 

واتضح أن أكثر من 20% منهن تعرضن للابتزاز الجنسي مقابل الحصول على القروض المالية، في حين تعرض 56.4% للتهديد بالحبس، و5.1% بالقتل، و20.5% لم يتعرضوا للتهديد أو الابتزاز.

 

الجهل بإيصالات الأمانة
اختلفت بداية طريق الإيصالات الموقعة على بياض كثيرًا مع الحاجة بثينة، إحدى قاطنات مدينة حوش عيسى بمحافظة البحيرة، فاستغل السماسرة جهلها بتوقيع شيكات لا تحمل قيمة المبلغ الأصلي، في الوقت الذي لم يكن أمامها سوى دق باب تجار القروض المالية لشراء مستلزمات الزواج لابنتها الوحيدة.

رّوت صاحبة الأربعين عامًا: «كان لازم أستر بنتي، زوجي مريض ومفيش فلوس للفرح وتكاليفه، كنت مستلفة من تجار كتير طلع معندهمش ضمير، ومكنتش عارفة إنى ماضية على بياض، التجار كانوا بيقولوا دي إيصالات عادية وأنا معنديش خبرة في الموضوع».

كانت الصدمة الكبرى للأم، حينما استغلها التجار بتقديم إيصالات الأمانة إلى المحكمة بمبالغ زائدة عن القيمة التي تحصلت عليها: «مضيت على دفتر شيكات كامل، واكتشفت إن التاجر قدم إيصال واحد فقط للمحكمة قيمته 76 ألف جنيه، والقرض الأصلي كانت قيمته 30 ألف جنيه».

مرت 3 سنوات على الحاجة بثينة في رعب وخوف من ملاحقة جهات تنفيذ الأحكام، فلم تعد تعيش في بيتها، تتنقل كالرحالة بين بيوت أقاربها، تارة عند أختها والأخرى عند والدتها، ولكنها لم تعد تتمكن من المكوث لديهن؛ فقد علمت شرطة تنفيذ الأحكام بأماكن تواجدها وترددت عليهن أكثر من مرة.

«نفسي ألاقي حد يساعدني، أنا اتظلمت وبقى عليا سوابق»، بتلك الكلمات اختتمت الأم، مشيرة إلى تعاطف جميع أهل بلدتها معها، كونهم يعلمون جيدًا أنها ضحية سماسرة الغارمات، فهي لم تكن على دراية بمدى خطورة الإيصالات الموقعة على بياض.

انتهينا من الحديث مع السيدة لنتجه إلى المحامي الخاص بقضيتها، علاء إبراهيم الجحيش، الذي أوضح أن الحاجة بثينة ضحية استغلال الجهل بعالم إيصالات الأمانة، وقد صدر ضدها 3 أحكام قضائية بداية من عام 2019، بالحبس لمدة 8 سنوات، بواقع أحكام غيابية لكل إيصال منهم حبس عامين.

وطالب «الجحيش» أحد السماسرة (أ.م) التخلى عن المبالغ الطائلة المقترنة بالإيصالات؛ لمساعدة المتهمة بسداد مبلغ الدين الأصلي، موجهًا نصيحته لكافة المتعثرين بعدم اتباع الإيصالات الموقعة على بياض؛ فهي خطر جسيم وكابوس يهدد الحياة، مشيرًا إلى أن المحاكم أصبحت مليئة بمثل هذه النوعية من القضايا التي يعجز فيها القانون عن إنصاف الغارمات، فالقانون ينظر إلى التوقيعات والأوراق.

وبعد الحصول على رقم هاتف (أ.م)، عقدنا معه اتفاقية جديدة على توريد عدد من النساء، يحتجن قروض مالية، من خلال حديث مطول معه دام لأكثر من أسبوع، لنثبت تورطه في المتاجرة بحاجة النساء اللاتي يعانين من ظروف معيشية ضيقة.

 

لا لسماسرة الغارمات

وبعد الانتهاء من إثبات فرضية التحقيق، بحثنا عن الحل الأمثل لمساعدة النساء على تخطي ظروفهن الصعبة، ووجدنا بالفعل عدد من مكاتب القروض المالية المرخصة والتابعة لوزارة التضامن الاجتماعي، لكنها لا تورد المال بهذه الطريقة التجارية، وتشترط حصول النساء على المال من أجل إقامة مشروعات صغيرة لهن.

فور وصولنا إلى أحد المكاتب المرخصة، وجدنا يافطة كبيرة معلقة بالخارج تثبت ترخيص المكان من قبل وزارة التضامن الاجتماعي، ومرفق بها جملة توضيحية أن القروض المقدمة من أجل فتح المشروعات الخاصة فقط.

واستعلمنا من مديرة المكتب عن الإجراءات التي تُتبع مع النساء، وقالت: «أول خطوة نقوم بتنفيذها هي معاينة مكان المشروع حتى وإن كان داخل المنزل، ثم الحصول على إيصالات الغاز والكهرباء والمياه التي تفيد بملكية المنزل للشخص المقترض، فضلًا عن توفير شخصين كضامن، وإمضاء الإيصالات هنا يكون قانوني لا تلاعب فيه».

لاحظنا خلال حديثنا مع المديرة وجود يافطة أخرى معلقة داخل المكتب ومكتوب عليها «لا لسماسرة الغارمات»، وسألناها على الفور عن قصدهم بهذا الشأن، لتؤكد لنا أنهم يعملون دومًا على توعية النساء بخطورة التعامل مع سماسرة القروض المالية، والإمضاء على إيصالات أمانة (على بياض)، خاصة بعد انتشارهم الكبير داخل الأحياء الشعبية والقرى الفقيرة.