رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ولد في أسرة ديمقراطية».. حكايات من طفولة يحيى حقي

يحيى حقي
يحيى حقي

"كان مولدي أشبه شيء بالمأزق، لأنني من أصل تركي، أول شخص من أسرتي ولد في مصر هو أبي، لا جدي. واسمي في الطابع التركي هو "حقي"، وهو اسم تركي، ولدت في مصر".. هكذا تحدث الكاتب والروائي الراحل يحيى حقي (17 يناير 1905م - 9 ديسمبر 1992م) عن بداية رحلته مع الحياة، مستطردا: إنما الذي أنقذني من هذا المأزق شيئان؛ الأول إنني ولدت في أسرة مثلها في الديمقراطية، نشأت في جو لا يؤمن قط بوجود الفروق بين الناس، من حيث اللون أو الجنس أو التروة أو الوسط، فلم أشعر مطلقا، وأنا صغير، بأنني لا أنتمي إلى هذا البلد الذي أعيش فيه.

وتابع في حوار له بمجلة "الآداب" بعددها الصادر بتاريخ 1 يناير 1994: أما النجاة الأخرى فقد جاءتني حينما تطلعت، فيما بعد، إلى فلسفة الدين الإسلامي الذي جاء لا بدين فحسب، بل بمجتمع متماسك، متوحد، يعتمد على الدين، وعلى اللغة، فالمسلم أينما كان في الأرض، موضحا: هذان الشعوران.. هذان المبدآن (ديمقراطية الأسرة، ومبدأ الإسلام في إلغاء الفروق بين جميع المسلمين) جعلاني مرتاحا، نفسيا، جدا للوضع الذي وجدت فيه، وأغرب من هذا أنني وجدت لهذه الأرض التي ولدت عليها قدرة غريبة جدا على الامتصاص؛ ولو عصرتني عصرا لما درت مني نقطة واحدة غير مصرية.. لدرجة أنني، في بعض الأحيان، أتألم عضويا من الشعور بهذا الالتحام، وبهؤلاء الناس، وبهذا الشعب. بأهلي. إن الاندماج الذي أحس به مع مصر يسبب لي، في ساعات معينة، حالات من الألم.. إنه شعور عضوي، كأني إنسان محتضن احتضانا شديدا؛ ثمة من أخذني بين ذراعيه وأطبق علي إطباقا شديدا.

وعن أثر العامل الاجتماعي في تكوينه النفسي والذهني؛ قال: ذكرت أنني نشأت في أسرة ديمقطراطية لا استعلاء عندها لغني على فقير، بل العكس.. كان يدخل بيتنا من الفقراء أكثر مما يدخله من الأغنياء، فمنذ صغري ونظرتي موجهة إلى الكادحين.. إلى الشعب الكادح. نشأت في أسرة أغلبها موظفو حكومة: أول الشهر يقبض واحدهم مرتبه، ويمرض فينقطع رزقه، مستطردا: ولكن هذا الرجل الذي خرج صبيحة يومه مع الفجر، لا يملك شيئا، وينتظر، بمجهوده وكدحه، أن يكسب رزق يومه.. هذا وغيره ممن يكسبون رزقهم يوما بيوم هم أقرب الناس إلى قلبي، وأكثرهم صدقا في تصوير الإيمان بالله، والاعتماد على النفس، والثقة في الحياة. هؤلاء أحس بهم وأنا أسير في الطرقات.. كل الباعة المتجولين، والسائرين، والعمال الذين يشتغلون بجهدهم اليومي، توجد بيني وبينهم صلات روحية قوية جدا.. أحس بهم إحساسا شديدا.

أما عن رحلته مع الكتابة والفن؛ قال: أعود أيضا للأسرة التي ولدت فيها.. كانت أسرة مثقفة.. كانت أمي تقرأ وتكتب، وتقرأ دائما كتب الدين والحديث والشعر، وأبي أيضا كان كذلك، فالطابع الذي تميزت به أسرتي هو الهيام بالكلمة الصحيحة في موضعها الصحيح، فكان لهذا أثر كبير جدا علي في سبيل الفن، مستطردا: كل جهادي ليس في باب القصة، ولا في باب النقد.. وإنما جهادي في أن أقيم التعبير العربي إقامة صحيحة بأن ألتزم الحتمية، بحيث أن كل كلمة لا تستخدم إلا بما فيه شرفها وعزها، فلا نسقط في مهاوي المترادفات والسجع اللفظي، والسجع الذهني، والزخارف، والأباطيل، فاللغة هي قالب الفكر؛ فإذا كان القالب مانعا - كما يقال في مصر - فإنك لا تستطيع أن تحصل على فكر واضح، أو جريء ومحدد.

عاش يحيى حقي حياة متعددة الألوان، متغيرة الأشكال، ويبدو أن من خلال كتاباته أن هذه الحياة قد منحته أشياء كثيرة على مستوى الإبداع، وهذا ما أكده خلال حواره: إن نشأتي في القاهرة، بجوامعها وآثارها الإسلامية، زادتني التحاما بالتاريخ الإسلامي والدين الإسلامي، بعد ذلك اشتغلت سنتين مع الفلاحين في مصر، وهذه كانت من أهم فترات حياتي، لأني عاشرت الفلاح المصري عن قرب، وأزعم أنني عرفته ووصفته في كتاب لي أعتز به كثيرا "خليها على الله".. أغلبه صور لا قصص.. تصوير للواقع.. سيرة ذاتية، لم أتكلم فيه عن نفسي، وإنما تكلمت فيه عما رأيت، فقدمت للقارئ بعض ما انعكس في نفسي من الصور التي رأيتها.. بتعبير فني طبعا.