رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مشاهدات فى بلد الألف يوم «1»

ظلت الفيوم مرتبطة فى ذهنى طوال فترة طفولتى بالطيور «الدجاج، الحمام، الديك الرومى،..»، وأضيف لهذه الصورة السبع سواقى بعد أن درست فى الجغرافيا «منخفض الفيوم»، وهى السواقى التى ابتكرها المصرى القديم منذ ٢٠٠٠ عام فى عصر البطالمة لرفع المياه إلى الأراضى الزراعية، حيث استغلوا شلالات بحر يوسف فى دفع سواقى الهدير، لتجلب هذه السواقى المياه من أسفل إلى أعلى بفعل قوة دفع المياه ذاتها.

ولكن هذه الصورة تحولت كليًا بعد مشاهدتى فيلم المهاجر «١٩٩٤» وإعجابى الشديد بطبيعة المكان الذى اختاره «يوسف شاهين» لتصوير بعض مشاهد الفيلم التى جمعت بين خالد النبوى وحنان ترك ويسرا، واندهشت لوجود هذا الشلال فى مصر وبالتحديد فى محافظة الفيوم، فتحولت الفيوم إلى بلد الشلال، وظلت لدىّ الرغبة لزيارة شلال وادى الريان، وتحققت هذه الرغبة عام ١٩٩٨ بعد أن عملت معدة برامج فى محطة راديو وتليفزيون العرب ART، تواصلت مع إدارة محمية وادى الريان، وتم التنسيق لزيارة المحمية بصحبة فريق التصوير لتقديم تقرير عن منطقة وادى الريان التى أصبحت محمية فى عام ١٩٨٩ لحماية الموارد البيولوجية، والجيولوجية، والثقافية بالمنطقة.

كان شلال وادى الريان هو هدفى من التصوير، لكننى فوجئت وأنا أجمع المعلومات بأن هذه المنطقة كنز تاريخى وجغرافى، وأن محمية وادى الريان بيئة صحراوية متكاملة، تحتوى على مجموعة متنوعة من المناظر الطبيعية والتشكيلات، بما فيها الحياة البرية النادرة فى صحراء وادى الريان، إلى جانب أحافير مخلوقات من العصور الماضية ومواقع التراث الثقافى من الحضارات القديمة. 

أخبرنى مدير المحمية بأن وادى الريان، وهو منخفض عميق من الحجر الجيرى الأيوسينى، موطنًا لبحيرتين كبيرتين، هما البحيرة العليا والبحيرة السفلى، متصلتين بشلال مصر الوحيد. والمدهش أن بحيرتى وادى الريان هما بحيرتان صناعيتان، وأن اختلاف منسوب البحيرة العليا عن البحيرة السفلى بمقدار عشرين مترًا هو الذى سمح بتكون شلالات وادى الريان التى يبلغ عددها ثلاثة شلالات، يتراوح ارتفاعها بين ٢ و٤ أمتار. ولم يكن لها وجود قبل عام ١٩٧٤.

أعطانى مدير المحمية كتيبًا يحوى معلومات وصورًا، وقد طلب منى عدم استخدام صورة غلاف المنشور، فالمنشور يحتوى على صورة لرجل يجلس على قمة جبل المدورة وفى يده سيجارة، وهذه مخالفة، لأن التدخين ممنوع فى المحميات الطبيعية، ضحكت لهذه المفارقة المصرية، ولم يمنعنى ذلك من الاستفادة من المعلومات القيمة التى احتواها الكتيب عن تاريخ وادى الريان.. بدأت فكرة الاستفادة من مياه وادى الريان، فى عهد محمد على باشا، الذى كلف كبير مهندسيه بالبحث عن طريقه لتخزين مياه الفيضان، وفى عام ١٨٨٢، تقدم المهندس الأمريكى «فريدريك توب هويت» بمشروع لتحويل مياه النيل إلى منخفض الريان، وذلك لحماية النيل من الفيضانات العالية، والانتفاع بالمياه المخزونة وقت الحاجة، وكان التفكير يتجه إلى توصيل نهر النيل لعمل طراد ضخم بوادى الريان عن طريق حفر قناة بطول ٧ كيلومترات إلى وادى الريان. وقد تعطل المشروع لسنوات طويلة، حتى جاء عام ١٩٤٣ وبدأت الحكومة المصرية فى حفر مساحة كبيرة من تلك القناة، ولكن المشروع توقف لاعتقاد خبراء الجيولوجيا بأن أسفل منخفض الفيوم ملىء بالفوالق والكسور، فخشى مهندسو القناة من تسرب المياه إلى تلك الفوالق، وفى عام ١٩٥٠ تم إثبات عدم صحة هذه النظرية، ولكن مصر فى هذا الوقت كانت قد بدأت دراسات تنفيذ السد العالى فى أسوان.

وبعد افتتاح السد العالى وتخزين مياه النيل فى بحيرة ناصر، وبسبب انخفاض المياه الواصلة لبحيرة قارون، وزيادة مياه صرف الأراضى الزراعية ببحيرة قارون، عاد التفكير للمشروع ليتم صرف مياه الأراضى الزراعية الجنوبية فى الفيوم إلى وادى الريان، وبدأ التنفيذ عام ١٩٧٤، فقبل هذا التاريخ كان وادى الريان واديًا صحراويًا جافًا. 

اخترنا يوم الجمعة ليكون موعدًا للتصوير، وانتقلنا من القاهرة فى الصباح الباكر متخذين طريق الفيوم الصحراوى، متجهين إلى الجزء الجنوبى الغربى من الفيوم، مارين ببحيرة قارون وأساطير الكنوز المدفونة بها، وبقرى عديدة، تحمل أسماءً وقصصًا وحكايات تحتاج إلى ألف يوم لروايتها.

وللرحلة بقية..