رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طريقة جاليانو

للكاتب الأوروجوايانى إدواردو جاليانو «١٩٤٠- ٢٠١٥» منزلة كبيرة فى قلب عشاق الكتابة الجميلة الملهمة، لأنه ابتكر طريقة وشكلًا ولغة تخصه وحده، فمنذ كتابه العظيم «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية» الذى صدر مطلع سبعينيات القرن الماضى، والرجل محل اهتمام مناهضى الاستعمار فى العالم كله، وحين أهدى هوجو شافيز نسخة من الكتاب لباراك أوباما سنة ٢٠٠٩ قفز الكتاب من المرتبة ٥٤٢٩٥ فى موقع أمازون الإلكترونى الخاص ببيع الكتب إلى المرتبة الثانية فى هذا اليوم.

إيزابيل الليندى قالت فى مذكراتها: «كان كتاب الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية، واحدًا من كتابين فقط، إلى جانب بعض الملابس، وصور عائلية وحقيبة صغيرة فيها القليل من تراب حقيبتى، من ضمن ما أخذته معى أثناء هروبى من تشيلى بعد أن استولى بينوشى على السلطة»، الكتاب يتناول خمسة قرون من النهب واستخراج الموارد الطبيعية الوفيرة فى المنطقة على يد الغزاة الأوروبيين والأمريكيين لإثراء عدد قليل من النخب المحلية والعديد من المصالح الأجنبية، جاليانو معروف فى الوطن العربى بسبب كتابه الفريد «كرة القدم بين الشمس والظل» الذى ترجمه صالح علمانى وخرج فى طبعات عديدة، الكتاب يتناول اللعبة بطريقة تجمع بين معرفة الكاتب بقوانينها ولاعبيها وتاريخ لحظات النصر والهزيمة منذ بداياتها، وكيف يتم استغلالها سياسيًا، وأيضًا تناول مصائر نجومها، ويناقش كيف نجحت الرأسمالية فى اختطافها من أصحابها الأصليين من فقراء العالم، بلغة تجمع بين الصحافة والشعر والفلسفة، وله أيضًا كتاب العناق وأبناء الأيام و«مرايا: ما يشبه تاريخًا للعالم»، وثلاثيته الفاتنة ذاكرة النار «سفر التكوين، الوجوه والأقنعة، قرن الريح» وهى من ترجمة أسامة إسبر، وأنت تقرأ له ستجد رجلًا يمزج فى أسلوبه المفردات والأنماط التى عرفها الأدب العالمى من الرومانسية إلى الواقعية والرمزية وكتابات الحداثة والسوريالية، لكنه فى ذلك كله، يحاول تحطيم النمط المتعارف عليه وشق طريقه الخاص، يسعى فى كل مرة لتقديم كتاب أساسى فى مكتبة أى قارئ، ليس لجهة المعلومات التى يقدمها، وهى فى غاية الأهمية، بل للشكل والأسلوب والاختزال، إذ تشكل مادة مجمعة تغنى القارئ عن البحث، إلا إذا كان ذلك للاستزادة فى التفاصيل، أو للتأكد من دقة المعلومات من مصادر أخرى، ولا يمكن هنا إغفال الأسلوب الذى يجمع بين الاختزال الصحفى واللمسة الوجدانية التى تقترب من البلاغة الشعرية دون أن تدعى ذلك، قال لإحدى الصحف الإسبانية: «هناك تقليد يرى فى الصحافة الجانب الأسود للأدب، وذروته هو تأليف الكتب». ويضيف: «لا أتفق مع ذلك. أعتقد بأن كل الأعمال المكتوبة تؤلف الأدب حتى الجرافيتى، لقد كتبت الكتب لعدة سنوات لكنى تمرنت كصحفى وما زالت البصمة فى، أنا أقر بالجميل للصحافة إذ أيقظتنى على حقائق العالم»، عاش مناهضًا للرأسمالية والعولمة، ونصيرًا للشعوب المظلومة وعلى رأسها الشعب الفلسطينى، ولكنه رحب بانتخاب باراك أوباما، جاليانو الذى عاش فى المنفى أكثر من عقد أثناء السبعينيات والثمانينيات، ومع ذلك فهو يتمتع بالأصداء الرمزية لانتخاب أوباما ببضعة تلميحات قائلًا: «كنت فى غاية السعادة حين جرى انتخابه لأن أمريكا صاحبة تقليد ناضج فى العنصرية». حكى كيف أمر البنتاجون فى عام ١٩٤٢ بأنه غير مسموح نقل دم السود إلى البيض: «فى التاريخ ذلك لا يعنى شيئًا، فسبعون سنة تشبه دقيقة، لذا فإن نصر أوباما كان يستحق الاحتفال»، تفتقد صحافتنا لنموذج كاتب أوروجواى الكبير، لأننا دائمًا نعلق على الأحداث أو نتابعها، ولا نسعى إلى الحفر فى الزمن والاحتشاد بالفنون الأخرى ونحن نمسك القلم، ربما لأننا تعودنا على طريقة تفكير واحدة، تبدو متنوعة، ولكنها فى النهاية طريقة واحدة ينتهجها الكاتب الذى يبرر وجهة نظره، أو وجهة نظر الجهة التى يعبر عنها، سألته صحفية إن كان متفائلًا بشأن حالة العالم أجاب: «يعتمد على سؤالك لى خلال النهار، من الساعة الثامنة صباحًا حتى الظهر أنا متشائم. ثم من الساعة الواحدة حتى الرابعة أشعر بالتفاؤل»، أشعر بالغبطة والغيرة وأنا أقرأ لهذا الرجل، وأتجول معه فى مناطق من تاريخ البشرية كأننى فى نزهة روحية، تشعر بأنه صديقك قليل الكلام الذى يشير لك على عذابات البشرية التى حاصرتها الرأسمالية ولا تريد أن يسمع العالم أنينها، كانت نيتى قبل كتابة هذا المقال تناول كتابه الأخير «أطفال الزمن»، والذى أعدت قراءته فى إجازة العيد، ولكن صاحبه دفعنى لكتابة ما سبق، وفى الأسبوع المقبل بمشيئة الله لنا وقفة مع «أطفال الزمن» (تقويم للتاريخ البشرى).