رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«كان يختفي تحت السرير والكتاب في يديه».. حكايات من طفولة أنيس منصور

أنيس منصور
أنيس منصور

"كنا ننتقل كثيرًا بين القرى والمدن، والناس تتغير صورهم وأصواتهم وعلاقاتهم أو محاولاتهم أن تكون هناك علاقات، ولكنهم جميعًا بعيدون جدًا.. لا ألمس أحدا بيدي.. لا أصافحه.. لا أحاول أن أكون أقرب.. لا أحاول أن أجعل الجار زميلا والزميل صديقا، والصديق عزيزا أفرح حين أراه، وأحزن حين أفارقه.. أبدا.. لم يحدث شيء من كل ذلك.. فالمسافة بعيدة بيني وبين الناس.. وكل الأطفال الذين عرفتهم عن بعد في الشارع.. أو عن قرب في المدارس يتحدثون عن البيت وبيت العائلة وعن الإخوة والخالات والعمات.. والعائلة.. والأفراح وأعياد الميلاد والذهاب إلى المقابر.. ولكني لا أجد مناسبة لأن أقول كلامًا من مثل هذا أو حتى وجدتني أقول: أبي.. أو عمي أو خالي أو خالتي.. ولا وجدت في بيتنا كرة أو أي أداة من أدوات اللعب"، هكذا تحدث الكاتب الراحل أنيس منصور (18 أغسطس 1924 - 21 أكتوبر 2011) عن طفولته في كتابه "البقية في حياتي.. لوحات تذكارية على جدران الطفولة" الذي تحدث فيه عن ذكريات طفولته المبكرة.

خلال صفحات الكتاب يأخذنا أنيس منصور إلى رحلة تجوب فيها ذكريات طفولته، بين خوفه من والدته وخوفه عليها، وقلقه على والده وشوقه إلى صوته الجميل إذ كان يعتاد على ترتيل القرآن، وغناء الشعر، وعلاقته الوطيدة بأصدقائه من اليهود والمسيحيين، والتي تركت أثرًا إيجابيًا وتحديدًا في علاقته مع اليهود.

كانت طفولة أنيس منصور غريبة وليس كغيره من الأطفال، فكانت والدته تحرص على ألا يتحدث ولا يلعب مع الأطفال، فكان رأيها أن كل الأطفال لا أدب لهم ولا أخلاق، وأنهم يلعبون في التراب، ويمزقون ملابسهم، وكانت تردد دائمًا أن ابنها - أنيس - مؤدب، وكان إذا جاء ضيف تشير إليه أن يجلس في صمت، فيجلس ليسمع ويرى ولا يتكلم إلا إذا طلبت منه أن يأيتها بكوب أو يفتح الباب.

وعن والدته قال أنيس منصور: "أمي سيدة عارفة بكل شيء، وهي قوية، فكل أخواتها يلجأن إليها ويسألنها ويأخذن برأيها، وكانت إذا غضبت مع واحد من إخوتها لا تذهب إليه.. بل هو الذي يجيء ويعتذر ويقبل رأسها، إن واحدًا من إخوتها كان مريضًا، وقالوا إنه على وشك أن يموت ويريد أن يراها، فكانت تقول: يأتي على نقالة إلى هنا ويعتذر أولًا"، و"تساند خالي هذا على إخوته وجاء واعتذر".

أما والده فلعب دورًا كبيرًا في حياته، إذ كان صوته جميلا في تلاوة القرآن وإذا أذن لصلاة الفجر، فكان يؤذن في البيت قبل الصلاة، ولم يكن يصلي إلا وهو وراءه، وكانت أمه لا تصلي، لأنها دائمًا مرهقة أو كانت مريضة، أو كانت لا تحب أن تصحو مبكرًا؛ بحسب كلام أنيس منصور في كتابه "البقية في حياته"، ويستطرد: كان أبي يتلو القرآن بصوت مرتفع، ولم يكن يسمعه أحد سواي، وكان صوته ناعما رخيما، وفي بعض الأحيان كنت أرى أبي يتلو القرآن ويبكي، وإذا رآني فإنه بسرعة يمسح دموعه، ويمضي في التلاوة.

كان لأنيس منصور نظرة إلى الكتب أثناء مرحلة طفولته، قائلًا: كانت نظرتي إلى الكتب في فزع، ففي سن صغيرة جدًا عرفت أن "الفقر" هو الكتب، والأدب والذوق هو الفقر والكرم فقر، والناس كلهم والجلوس إليهم ودعوتهم وحب الناس فقر والملابس النظيفة والأنيقة فقر، وشراء كل شيء فقر وشراء كل شيء وبكميات كبيرة هو الفقر السريع، وكل من ليس له دكان وكل من تزوج مرة ومرتين فقر، والذي لا يملك بيتا، ولا يقتني أرضا، والذي يصلي ويصوم ويخاف الله ويعيش نظيف اليد، حسن السير والسلوك فقر، وكل هذه الصفات هي أبي، ولكن لم أعرف معنى الفقر ومن هو الرجل الفقير.. فقط الرجل يمد يده للناس.. الشحاذ.. الذي يلح في طلب الطعام والشراب ويدق الأبواب ويستوقف الناس ويعطيه الناس ولا يعطونه وأحيانا يشتمونه.. وسمعت أن شحاذا مات عن ست بلاليص مليئة بالفلوس.. ولم يجد أحدا يرث هذه الفلوس فأخذها اللصوص فكأنه ظل طول عمره يجمع المال، وفي لحظة واحدة أخذها أقرب الناس إليه عندما مات.

ويتابع: لم تكن واضحة في ذهني علاقة الكتب بالفقر، ولا ما الذي تعمله الكتب في الناس، ولقد رأيت شيخ المسجد يقرأ الكتب في المسجد والناس يقبلون يديه ويطلبون منه البركة وأن يقضي الله حاجاتهم وأن يشفيهم من المرض، ورأيت كل التلامذة يقرأون الكتب ويحملونها من المدرسة ويحرصون عليها، ثم إننا نغير الكتب المدرسية كل سنة.. ورأيت بيت أحد أقاربي من الأغنياء.. وكانت الكتاب على الجدران وكانت مغطاة بنوافذ زجاجية وبعض الكتب لها غطاء من الجلد وعليه حروف من الذهب، ثم إنهم أغنياء عندهم حدائق وعندهم سيارات ويأكلون الدجاج كل يوم ويتصدقون على الفقراء، وكنت إذا وجدت كتابا رحت أقلب فيه حتى قبل أن أتعلم القراءة وكنت أختفي تحت السرير والكتاب في يدي، وإذا سمعت أمي تناديني، فأنني لا أنطق وأحيانا أتظاهر بأنني نائم إذا أحسست أنها سوف تعرف مكاني تحت السرير، ثم أنني أخفي الكتاب في ملابسي.

ويضيف: أول كتاب وجدته وكانت به صور، كان انقلابًا.. فكنت أقلب في صفحات الكتاب وأرى أناسا وحيوانات، وكنت أصحو من النوم مبكرا جدا وآخذ الكتاب وأقلبه بالقرب من المصباح، أو أخفيه في دولاب والدي.. فإذا نهضت معه عند الفجر سحبت الكتاب وجلست وراء والدي وهو يصلي وأتصفح الكتاب وكان والدي ينظر ولا يقول شيئا، كان يرى دهشتي وانبهاري، وفي نفس الوقت إنني لا أفهم، فكان يقول ردا على الذي أحسه ولا أعرف كيف أعبر عنه: غدا تتعلم وتحب كل هذه الكتب.. أنت الآن أحسن من الأطفال في سنك.. أنت تحفظ القرآن الكريم.. والقرآن سوف يجعلك تحب القراءة والكتابة.