رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدكتور نقولا أبو مراد يطرح جزء من رسالته في الدكتوراة عن سفر هوشع

الدكتور نقولا أبو
الدكتور نقولا أبو مراد

طرح الباحث الدكتور نقولا أبو مراد الحائز على شهادة الدكتوراة من جامعة إرلنغن في ألمانيا عن دراسة في سفر هوشع، جزء من دراسته تحت شعار «حين يصير اللهُ أُمًّا».

وقال: «عند النبيّ هوشع (الأصحاح 11) نجد نصًّا جميلاً وقويًّا في تعبيره، يتصارعُ فيه في الله جانبان: اللهُ القاضي الديّانُ والمنتقم، واللهُ الأمُّ الحنونُ العطوف، وفي هذا النصّ تتغلّب، في الله، في النهايةِ، الأمُّ على القاضي، النصّ، في أصله العبريّ، صعبٌ لورود كلماتٍ فيه، لا نجدها كثيرًا في أسفار العهد القديم، ولما فيه من صعوبات نحويّة وتأليفيّة، ولذلك أتت الترجمات مختلفةً، وأغلبها غير دقيق، أورِد هنا ترجمتي لآياته التي تستند إلى دراسة معمّقة للغته وتراكيبه».

وأضاف: «حينَ كانَ إسرائيلُ وَلَدًا أحببتُه، ومن مصرَ دعوتُ ابني" (هوشع 1:11)، في الآية (1) تضادّ بين فعل الله وأفعال إسرائيل، ولكي يبرز هذا التضادّ يتحدّث هوشع عن الله كأمٍّ: "الله أمُّ تحبّ ولدها، تدعوه". يرد فعل "أحبّ" مع الله كفاعلٍ، في بعض المواقع في العهد القديم، إلاّ أنّ هوشع هو أكثر الأسفار تكثيفًا لهذا الاستعمال، ولكنْ، في كلّ مرّة كنتُ أدعوهم، كانوا هم يمضون من أمام وجهي إلى البعلِ، يذبحون له، ويبخّرون للتماثيل المنحوتة" (هوشع 2:11)».

وتابع: «في الآية (2) يوجد تضادٍ بين هذه المحبّة وبين جواب إسرائيل عليها. فمقابلَ محبّة الله، يبدي إسرائيل تمرّدًا يخون المحبّة يهملها يستجيب للدعوة بالهروب منها، واللجوء إلى البعل، إلى التماثيل المنحوتة، أي إلى عملِ يديه، إلى أنانيّته، إلى أهوائه، وأنا علّمتُ إفرائيمَ المشيَ، وكنتُ أمسكهم بأذرعهم، وهم لم يعرفوا أنّني قوّمتُهم" (هوشع 3:11)».

وأردف: «في الآية (3) هوشعَ يوضِح هذه المحبّةَ، إنّها محبّةُ الأمّ لولدها: بهذه المحبّةِ علّم اللهُ، أمًّا، إسرائيلَ المشيَ، أمسكه بذراعه، تعلّق به باللطف، بالمحبّة ورغمَ الخيانة، رغم التجاهل، رغم انعدام العرفانِ، بقي الله على محبّـته، كما لا تتوقّف الأمُّ عن محبّة ولدها، ولو أهملها وتركها وأساء إليها، كنت مشدودًا إليهم برُبُط اللطفِ، بحبال المحبّة، وصرتُ لهم كاللواتي يرفَعنَ رضيعًا إلى وجناتهنّ، أنحني إليه لأطعمَه" (هوشع 4:11)».

واستطرد: «في الآية (4) يتوّج هوشع هذا الكلامَ بتشبيه الله بالأمّهات حين يحملنَ رضيعهنّ ويضعنه على وجناتهنّ، وحينَ ينحنين إليه ليرضعنه من أثدائهنّ. هذا أقوى توضيح للمحبّة الإلهيّة، ليس فقط عند هوشع، ولكن في الكتاب المقدّس كلّه: هذه اللحظةُ التي يكون فيها الرضيع على ثدي أمّه هي أعظمُ ترجمة لمحبّة الأمّ التي ما من عباراتٍ يمكنها الاحاطةُ بها، وما من علاقة بين الناس أقوى وأصدق منها. هي فعلٌ مجّانيّ وتبقى فعلاً وهذا الفعلُ أشدّ أشكال المحبّة أصالةً: الرضيع لا يفقه شيئًا، من دون الأمّ لا يحيا، والأمّ تعرِف هذا، ولهذا تعطيه، إلى المحبّة واللطف والحنوّ، تعطيه الحياةَ، مجّانًا. هكذا جوابُ الله، في هوشع، على تمرّد إسرائيل، لَن يرجع إلى مصرَ، بل أشّور يكون ملكَه، لأنّهم أبوا أن يتوبوا، يثور سيفٌ في مدنهم، يُتلِف صوالجتها، ويأكلُهم بسبب أفكارهم" (هوشع 5:11 و6)».

وواصل: «في الآيتين (5 و6) يظهرُ الله في وجهه كقاضٍ إسرائيل آثمٌ، والله، قاضيًا، يعاقب يطردُ إسرائيل. يرسله إلى أشّور ليُستعبَد ويشقى أكثر من شقائه في مصر. يأتي عليه بالموت، بالقتل، بخراب مدنه. لا يستجيب له حين يدعوه. يهمله في خرابه، في فوضى وجوده. يلفظ حكمَه كما تستحقّه أفعالُه. ويمضي. هذا يفعله الله لو شاء أن يتصرّف كقاضٍ، وشعبي جائحٌ، يرتدّ عنّي، يدعونَ العليَّ وليسَ مَن يرفعهم" (هوشع 7:11)
واكمل: "في الآية (7) لا يستجيب الله لشعبه حين يدعوه. يهمله في خرابه، في فوضى وجوده. يلفظ حُكمَه كما تستحقّه أفعالُ شعبه. ويمضي. هذا يفعله الله لو شاء أن يتصرّف كقاضٍ، ماذا أصنع بك يا إفرائيم؟ ماذا أصيّرك يا إسرائيل؟ كيف أجعلك كأَدْمَة؟ كيف أصيّرك كصبوئيم؟ قلبي انقلب عليّ. اشتعل كلُّ ما فيّ من حنان. لن أجريَ حمو غضبي، ولن أعود أخرب إفرائيم، لأنّي الله أنا، ولست إنسانًا. أنا القدّوس في وسطك، فلن آتي إليكَ ساخطًا. وراء الربّ يسيرون. هو كأسدٍ يُزَمْجِرُ، وحين يُزَمْجِرُ يسرع البنون من البحر، يسرعون كعصفور من مصر، وكحمامةٍ من أشّور، وأسكنهم في بيوتهم. هكذا يقول الربّ" (هوشع 8:11 - 11).
واختتم :"في الآيات (8 - 11) وجهَ الأمّ، في هذا النصّ البديع، يغلب وجهَ القاضي. لا يجري الله حكمَه في الشعب، بل محبّته له. ينقلب قلبُ الله عليه. يثورُ فيه بدل السيف اللطف. وبدلَ النقمة الحنان. يخلع الله رداء القضاء، وينزل عن القوس، ويذهب إلى الناسِ راكضًا كأمّ إلى ولدها لترفعه من سقطة وتمسكه بذراعه وتداوي جروحه وتطعمه. يصدر الله حكمه مع وقف التنفيذ، ويجري للناسِ، عوضًا عنه، محبّة الأمّ لأولادها، وعطفَها وتفانيَها. وعلى هذه النبرة ينهي هوشع كتابَه برحمة عظيمة تُعطى لإسرائيل، وتُعطى للناس جميعًا على الأرض.
الله، في الكتاب المقدّس، قاضٍ في الأساس. هذا حضورُه الأكثفُ فيه. وحينَ يدعو إلى اتّباعه، ويعلّم مشيئته وكلمتَه، يدعو ويعلّم كأبٍ. ولكن، حينَ يعود ليحاسب عمّا إذا كانت مشيئته وكلمته قد اتّبعتا، يأتي كأمٍّ راحمًا وشافيًا ومحييًا. هذا وجهه إلى الأبد.