رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أثر الورد لا يزول».. قصة المدينة التي لا يجوع فيها أحد في فلسطين

تكية الخليل فلسطين
تكية الخليل فلسطين

أيادي الخير دائمًا ممدودة، لا تتوقف وكما قيل في الأثر "الخير كالورد، أثره دائم لا محالة، فالعطر يبقى ويفوح"، تلك المقولة آمن بها عدد كبير من أهالي "التكية الإبراهيمية"، أحبّوها وأناروا بها قلوبهم، فالوفاء سماتهم الأزلية. 

عقولهم لا تفكر إلا في الإحسان، يحاولون سد جوع المحتاجين لا يهنئون ولا يرتاح لهم بال إلا والجميع مكتفين وشبعى. فها هو لؤي الخطيب الذي يخوض يوميًا معركته الخاصة أثناء الذهاب إلى عمله، المعركة التي يعلوها شعار الإنسانية والعطاء والخير، ولا يقل دوره شرفًا وأهميةً عن مقاتل يواجه معتد غاشم، فهو يعمل مديرًا للتكية التي تقع بجوار الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل بفلسطين.

يبدأ لؤي معركته بعدما يصلي الفجر في المسجد الإبراهيمي الذي يعد رابع الأماكن المقدسة بعد الحرمين المكي والمدني والمسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين، مستخدمًا فيها أسلحته الخاصة وهي الإشراف، الإنصات، الانتباه الجيد لطاقم العمل في التكية، الذين يسابقون الزمن للانتهاء من إعداد الطعام والوجبات بما يكفي المواطنين القادمين إلى التكية من كل حدب وصب بفلسطين لأخذ وجبتهم، وذلك قبل غروب الشمس وإلى أن يغرب الاحتلال عن أراضيهم.

تكية الخليل الإبراهيمية

يدير لؤي التكية بشموخ وعزة يستمدهما من قدسية وعظمة الحرم الإبراهيمي التي تكاد أسواره تلامس السماء لارتفاعها الملحوظ، ويقف المسجد شاهدًا على الخير الذي ينبثق من تكية الخليل التي تجود بالطعام على ضيوفها من الزوار المحتاجين والسائلين طوال العام، كما يظل شاهدًا على مر العصور على ممارسات الاعتداء الصهيوني على أرض فلسطين المحتلة.

وقديمًا كانت تدق طبول الحرب لصد هجمات المعتدي عن الأرض، وكذا الحال في تكية الخليل التي كانت تُسمى بالطبلانية لأنه كانت تُدق الطبول قبل بدء توزيع الطعام، بحسب حديث "الخطيب" الذي قال أنها كانت تضم 20 غرفة للمبيت، مخبز لإعداد الخبز طازجًا، ومكان مخصص لطحن القمح، ولكن هُدم هذا المقر في عام 1964، وبُنيت واحد أخرى حينها في منطقة البركة أو السهلي ومن ثم أُعيد بنائها مرة اخرى في مكانها الأصلي بجوار الحرم الإبراهيمي.

لؤي الخطيب مدير التكية

"خير التكية لا ينقطع على مدار أيام السنة بل ويزداد في الشهر المبارك"، هكذا وصف "الخطيب" حال تكية الخليل في شهر رمضان، قائلًا أنها تقدم الوجبات الساخنة طوال العام تحت إشراف وزارة الأوقاف، لكن تعتمد بشكل رئيسي على التبرعات، وفي أحد الأيام قدمت التكية نحو 13 ألف وجبة وكان هذا هو أقل يومًا تقدم فيه التكية وجبات الإفطار في شهر رمضان، فيما وزعت التكية نحو 500 ألف وجبة في ختام رمضان الماضي.

رابع الحرمين الشريفين وضريح السيدة سارة

تقع التكية الإبراهيمية بالقرب من حرم المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل في الضفة الغربية بفلسطين، وتشرف عليها وزارة الأوقاف الفلسطينية، وتعود بداياتها إلى عام  1279م إذ دشنها السلطان قلاوون الصالحي، في زمن صلاح الدين الأيوبي.

يعد المسجد الإبراهيمي الشريف أحد أبرز المقدسات عند المسلمين، تأتي كونه بمثابة رابع الحرمين الشريفين بعد المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي بالمدينة المنورة، والمسجد الأقصى المبارك بمدينة القدس.

ترجع أهمية الحرم الإبراهيمي إلى كونه مكان ضريح السيدة سارة زوجة النبي إبراهيم والتي دفنها في مغارة المكفيلة الموجودة تحت الحرم، ثم دُفن فيها هو مع ابنيه النبي إسحاق والنبي يعقوب، وزوجاتهم رفقة ولائقة؛ ما جعل المغارة محطّ اهتمام المسلمين عبر العصور. 

الحرم الإبراهيمي الشريف

أقدم الطهاة بالتكية: يهون التعب أمام ابتسامة ضيوف التكية

بينما يشق شعاع أول ضوء للشمس ظلام الليل الدامس يشق أبو حسن الجبريني طريقه ذاهبًا إلى التكية ليشرع في إعداد الطعام بعد صلاة الفجر مباشرةً كونه أحد أقدم الطهاة في تكية الخليل الإبراهيمية، ويستمر في طهي الطعام بكميات كبيرة من أجل استيعاب أكبر عدد ممكن من الوافدين على التكية الذين يرغبون في أخذ الوجبات والحساء.

ومع توهج حرارة الشمس في الخارج، تشتعل نيران مواقد مطبخ التكية في الداخل، ويقف "أبو حسن" أمام عدد من القدور الضخمة التي صُممت خصيصًا لإعداد مئات الكيلوات من الحساء واللحوم والخضار ويأخذ "أبو الحسن" في تقليب الطعام لتسهيل عملية إنضاجه، هكذا يعمل أبو حسن بتكية الخليل منذ 20 عامًا دون انقطاع، ووصف عمله في التكية طيلة هذه المدة قائلاً: "ما دمت حيًا لن أتوقف عن عملي في التكية وسأظل ملتزم به في سبيل ابتغاء وجه الله".

أبو حسن الجبريني أقدم الطهاة

قبل أن ينتهي أبوحسن وفريق الطهاة من اللمسات الأخيرة التي تضفي النكهة المميزة للطعام الإبراهيمي، تضج أزقة مدينة الخليل لاسيما تلك التي تحاوط التكية بالضيوف الذين يهرعون إليها وبحوزتهم ألوانًا من الصحون والأواني للحصول على نصيبهم مما تيسر من طعام وحساء التكية المميز، ويقول:"يوميًا، أطهو كميات ضخمة من الطعام سواءً اللحوم أو الحساء الإبراهيمي الذي يعد أساسيًا على أية مائدة بفلسطين، ويساعدني في عملي 6 أشخاص آخرون هم من أمهر الطهاة الذين عملت معهم طوال هذه المدة".

ويختتم أقدم الطهاة حديثه أنه يزداد حجم العمل في التكية خلال رمضان، إذ تتضاعف كميات الطعام التي يجرى تحضيرها بشكل يومي، كما يتم الحفاظ على التنوع بقدر الإمكان في أصناف الوجبات، لكن يهون كل هذا الجهد والتعب في سبيل فرحة وابتسامة تُرسم على وجه ضيوف التكية.

800 ألف نسمة في مدينة الخليل الإبراهيمية

بناءً على التقديرات السكانية التي أعدها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني حتى منتصف عام 2021، فإنه يوجد نحو 5.23 مليون فلسطيني في دولة فلسطين، 2.66 مليون ذكور و2.57 مليون إناث، فيما تجاوز سكان مدينة الخليل نحو 800 ألف نسمة في العام الجاري.

عدد السكان بفلسطين

باسل: فجر الجمعة هو يوم استثنائي في تكية الخليل

يفتخر باسل شارباتي، كونه واحدًا من أهالي مدينة الخليل بفلسطين التي يقع فيها التكية الإبراهيمية، وبدأ حديثه قائلًا:"إحنا من أهل المدينة التي لا ينم فيها جائع، وذلك بفضل كرم تكية الخليل التي لا تتوقف عن طهي وتوزيع الطعام يوميًا على الجميع بشكل مجاني".

"الإقبال كبير في مدينة الخليل على من يريد التبرع للتكية وليس من يأخذ منها"، هكذا يؤكد باسل مدى التنافس بين المواطنين على التكية للتبرع لها سواءً بالمال أو الطعام، لدرجة تصل إلى تأجيل التبرع من بعض الأشخاص لأيام أخرى لأنه تكون التكية لديها ما يكفي ويزيد لإطعام كل من يريد".

فيما يشير باسل إلى أنه مسموح للجميع أن يأخذ طعامًا من التكية سواءً فقيرًا أو غنيًا، بل وفي أحيان كثيرة نميل إلى تناول الطعام منها وكأننا نأخذ البركة من تكية الخليل التي تنتسب إلى كرم وبركة سيدنا إبراهيم.

أما عن فجر الجمعة فهو يوم استثنائي، إذ يتم إعداد حساء الخليل "شوربة الفريكة" وتوزيعه في محيط الحرم الإبراهيمي على الجميع بعد صلاة الفجر مباشرةً، باسل مختتمًا حديثه عن التكية.

باسل شارباتي

تسير على نهج الخليل أبو الضيفان 

على الرغم أن التكية تتبع إداريًا وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية إلا أن مصاريفها كافة تأتي عبر تبرعات من أهالي مدينة الخليل وخارجها، لتوفير وجبات الطعام لعابري السبيل وضيوف المدينة ومحتاجيها، وذلك استمرارًا لنهج سيدنا إبراهيم المُلقب بـ "أبو الضيفان" نظرًا لكرمه.

في 1964 أزيل بناء التكية القديم وملحقاتها وذلك ضمن مشروع إزالة ما حول المسجد الإبراهيمي الشريف، ونقل إلى مكان مؤقت بجانب بركة السلطان في المدينة، وفي 1983 جرى إنشاء مبنى جديد من الجهة الشمالية القريبة للمسجد الإبراهيمي، وتم تجهيز هذا المكان بكل ما يلزم التكية ويريح الوافدين وضيوف الخليل.

تقع تكية الخليل على مساحة شاسعة وتضم مطبخ، مخزن، مطحن، وقاعتين للطهي، واحدة مخصصة للرجال، وأخرى للنساء، وقاعتي انتظار للوافدين.

فدا: نحن محظوظون بوجود التكية في مدينتنا

فدا الجبريني، من أهالي مدينة الخليل الفلسطينية، تقول أن الله أنعم على فلسطين وتحديدًا مدينة الخليل بالتّكية الإبراهيمية، والتي تقدم أفضل وجبات الطعام على مدار العام دون توقف.

"اسمها التكية الإبراهيمية نسبةً لكرم سيدنا إبراهيم عليه السلام"، تقولها فدا، مستطردة أن التكية موجودة في ساحة مسجد سيدنا إبراهيم، هي ملاصقة له بالضبط، بمدينة الخليل، كبرى مدن فلسطين والتي تقع  إلى الجنوب من القدس بالضفة الغربية. 

"وتجود تكية الخليل بأفضل الطعام العربي الأصيل على جميع الأهالي والمواطنين ممن يترددوا عليها، وتكون الوجبة الأساسية من الحساء الساخن من القمح المجروش أي العنبر ونطلق عليها شوربة سيدنا إبراهيم أو شوربة الخليل، إضافة إلى اللحم وهو إما من الماعز أو الضأن، وبالتأكيد هي مجانية تمامًا"، تقولها فدا.

وتقول فدا: "نحنا محظوظين كتير بوجود التكية في مدينتنا الخليل ودائمًا ندعو بألا ينقطع عملها أبدًا، فهي تعتمد على التبرعات من الأغنياء كما أن فريق الطهاة متطوعين لإعداد الوجبات ولا يتقاضون أجرًا مقابل هذا العمل".

فدا 

تحتضن الوافدين والمُهجرين

واستمرت التكية في تقديم الطعام للوافدين من كل أنحاء فلسطين على مدينة الخليل في حربي 1948 و1967، إذ احتضنت آلاف الفلسطينيين المهجرين من أراضيهم.

تكية الخليل قديمًا