رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الرحبانية... تزوجا أنغام الغرب وأنجبا طرب الشرق»

 لا يتسع المقام لتقديم السيرة الذاتية للأخوين رحبانى فى هذه الأسطر المحدودة، فتاريخهما الشخصى قد يحتل صفحات وصفحات، أما سردية العطاء الموسيقى والبصمة فيحق لها مقال مستقل. حديثنا هنا حول البصمة الرحبانية فى الموسيقى كما أوجداها.

وفى البداية، تجدر الإشارة إلى أن لقب «الأخوين» رحبانى لا يشير إلى مثنى عددى لشقيقين اشتركا فى الإبداع الموسيقى والغنائى وحسب، وإنما هو لقب ضم الشقيقين وأبناءهما وبعض أقاربهما، فهناك فى الأساس الأخوان رحبانى وهما عاصى رحبانى (١٩٢٣- ١٩٨٦) ومنصور رحبانى (١٩٢٥- ٢٠٠٩) وقد ولدا فى مقاطعة أنطلياس لبنان للأب حنا إلياس رحبانى، وليس غريبًا أن زواج عاصى الرحبانى من فيروز أسفر عن ميلاد العضو الثالث فى العائلة الرحبانية وهى «فيروز الرحبانية»، وهى مختلفة تمامًا عن فيروز حداد، فقد صبغت هويتها الغنائية لتتناغم مع ألحان الرحبانية وتكتسب مزاجًا ملائكيًا يأخذك لعنان السماء، بينما احتفظت «نهاد وديع حداد» بحنجرتها البشرية كما هى عندما غنت لملحنين آخرين، ولعل أروع الأمثلة فى هذا السياق هو نمط الغناء وطبقات ومقامات الأداء عندما غنت من ألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب أكثر من عمل مثل «يا جارة الوادى» وكذلك «خايف أقول اللى فى قلبى»، وبالرغم من أن الرحبانية هما من قاما بالتوزيع الموسيقى للحن الأصلى فى الأغنيتين، فإن المقام الصوتى الشرقى تفوق على الحنجرة الأوبرالية الحادة لفيروز.

لم يكن الأخوان رحبانى مُلهمين فقط فى الموسيقى فقط، بل تفوقا فى الشعر أيضًا ونظم الأبيات القصيرة التى صارت لاحقًا تفى «بالاحتياج المحلى» لأغانى فيروز وللمسرحيات الغنائية البالغة ٢٣ مسرحية غنائية، وأغانى الأفلام لأكثر من خمسين فيلمًا سينمائيًا.

ولعل الأمر المحير فى فهم العبقرية الموسيقية للأخوين رحبانى وما إذا كانت موهبة ذاتية أو خبرة مكتسبة، هو تمكن زياد الرحبانى وهو بعمر السابعة عشرة من تلحين أغنية «سألونى الناس» التى كتبها عمه منصور الرحبانى وغنتها والدته السيدة فيروز عندما توارى أبوه عاصى الرحبانى فى سرير المرض جراء إصابته بجلطة دماغية، وهنا كانت دهشة النقاد والمراقبين من قدرة زياد الرحبانى على محاكاة لحن أبيه وقدرته على استخدام الآلات الموسيقية بنفس كفاءة الموزع الموسيقى الرحبانى.

يعلم دارسو الموسيقى أن الكلاسيكيات الغربية ليست بالصعوبة التى يتصورها العامة، وأنها ضرب من الفنون يمكن إضافته لمائدة الفن الشرقى، وأنه ليس بالعسر الذى يبدأ بصعوبة أسماء مؤلفيها مثل موتسارت وبتهوفن وغيرهما مرورًا بأسماء المقطوعات وانتهاءً بتصنيف المقامات.

فى الحقيقة، يحسب للأخوين رحبانى قدرتهما على تذوق الكلاسيكيات الغربية وإعادة صياغتها بتوزيع ونكهة شرقية جعلت البعض يظن أن المقطوعات التى أعاد توزيعها الرحبانية هى الأصل، وأن المعزوفة الغربية ربما كانت مقتبسة منها، وليس خفيًا أن المكتبة الموسيقية للرحبانية تزخر بعشرات المقطوعات العالمية والكلاسيكية التى أعادا توزيعها، بل وتطويعها للغناء بصوت فيروز فى محاولات تعدت الثمانى عشرة محاولة اقتباس من الغرب، مع إعادة تطويع جزئى أو كلى، وهنا نسوق للقارئ بعض هذه الأمثلة: 

أغنية «يمكن» المقتبسة من لحن أغنية «Imagine» لمغنى البيتلز «جون لينون» سنة ١٩٧١، وكذلك أغنية «لمين» المقتبسة من لحن أغنية «POUR QUI VEILLE L’ETOILE» للمغنى الفرنسى «كلاود باسكال» التى غناها سنة ١٩٥٨، وأيضًا أغنية «أنا وياك» التى غناها أكثر من مطرب عالمى ووضع لحنها المكسيكية المبدعة «كونسيلو فالاكيز»، والقائمة تطول لتضم ألحانًا أخرى شهيرة مثل «كانوا يا حبيبى» و«حبيتك بالصيف».

جدير بالذكر أن اقتباس الأعمال الفنية فى مجال الموسيقى والغناء هو أمر مشروع يتم من خلاله تبادل ثقافات اللحن والغناء بين الشعوب من أجل تبادل النكهات، وكانت هذه المحاولات تتم بتلقائية أن يلتقى المقتبس بصاحب المرجعية وكانت للموسيقار محمد عبدالوهاب محاولات عديدة فى اقتباس ألحان وضعها موسيقيون قبل زمانه ومنها العمل الشهير «يا مسافر وحدك» المقتبس من أغنية المطربة «صوفيا فيمبو» التى غنتها عام ١٩٣٩، والطريف أن الموسيقار محمد عبدالوهاب لم ينكر ذلك، بل جاهر باقتباس ألحان أخرى كثيرة، وأعلن عن أن الاقتباس فى هذه الحالات هو ضرب من الإبداع والعبقرية، ومن يستطع فليفعل. فى هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن مقننات الملكية الفكرية بدأت فى نهاية القرن التاسع عشر، ولكن تم تقنينها فى منتصف القرن الماضى، ولم يتم تطبيقها بغطاء قانونى محكم إلا قبل خمسة عقود.

أما بخصوص الأخوين رحبانى، فلم يعرف عنهما اقتباس الألحان أو المقطوعات الموسيقية خارج الإطار القانونى لحقوق الملكية الفكرية، فخرج إبداعهما للنور مشرفًا بالغطاء القانونى.

خارج أسوار المدرسة الفيروزية

لم يضن الأخوان رحبانى على مطربى الساحة العربية بألحانهما، بل قدما ألحانًا للكثير من المطربين فى مصر والعالم العربى، ولعل أشهر الأمثلة هى أغنية «يا وابور الساعة اتناشر» للمطربة عفاف راضى، وكذلك أغنية «حلو الحب أو لف يا قلبى» ناهيكم عن الموسيقى التصويرية لأفلام عربية مثل فيلم «دمى دموعى وابتسامتى».

إلى هنا ولا يمكن تجاهل عبقرية الفنان إلياس الرحبانى الذى تمسك بالنكهة الرحبانية فى التلحين، وجدير بالذكر أن التوزيع الموسيقى للألحان الشرقية ليس بالمهمة السهلة، إذ لا توجد مواصفات علمية للهارمونية الشرقية، ولذلك لم يستطع الأخوان كتابة توزيع يذكر للموشحات التى أعيد تقديمها، وقدمت كما هى بأسلوب «المونو فون».. الرحبانية عبقرية لا تنتهى.