رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الجعير» باسم التنوير

 

قبل عدة أيام، انتفض الإخوة محترفو «الجعير»، وصناعة الجدل باسم التنوير فى مصر، ضد البيان الذى أصدره مركز الفتوى بالأزهر الشريف بشأن بعض الأعمال الفنية التى تتعمد تشويه صورة رجل الدين الإسلامى، وعلى طريقة «اللى على راسه بطحة»، أخذوا يصرخون: «إلحق الأزهر بيصادر مسلسل كذا»، «الأزهر بيرد على ما جاء فى المسلسل»، «هجوم لاذع من شيخ الأزهر!»، وكلها طبعًا تتحدث عن شىء ما يقال إنه مسلسل تليفزيونى كتبه شخص لا يعرف عن الدراما التليفزيونية أو السينما أكثر من أسماء نجومها، ويبدو أنه يجاهد منذ زمن طويل لكى يكون واحدًا منهم، غير أنه دائمًا ما يفشل فى تقديم أى عمل يمكن تصنيفه كقطعة فنية، أو عمل فنى أو أدبى.

المهم.. بحثت عن البيان الذى كان لدىّ بعض العلم بما ورد فيه، وأعدت قراءته مرات ومرات، بحثًا عن اسم المسلسل المذكور فى الصحف والمواقع وصفحات التواصل الاجتماعى، لكنى لم أجد له أى ذكر، بل إننى وجدت فى البيان بعضًا من الانتصار للفن كان ينبغى الاحتفاء به بدلًا من هذه «الدوشة المجنونة والمرتبكة»، فالبيان لم يذكر اسم أى مسلسل أو عمل درامى بعينه، ولم يقترب منه، بل قال نصًا، وبداية من العنوان: «مركز الأزهر العالمى للفتوى: ندعم الإبداع المستنير الواعى».. وجاء فيه ما معناه «إن الضَّمائر اليقظة تدفع أصحابها نحو الإبداع المستنير».. فماذا يُغضب فى مثل هذه العبارات؟ لماذا لم يلتفت أى من محترفى الجعير والصيد فى «أى حتة» إليها؟ ومن أين صورت لهم عقولهم المريضة الاتجاه إلى التدخل والمنع والمصادرة؟

هل آلامتهم العبارة التى يقول البيان فيها إن «تعمُّد تقديم عالِم الدّين الإسلامى بعمامته الأزهرية البيضاء فى صورة الجاهل، الإمّعة، معدوم المروءة، دنىء النَّفس، عَيِىّ اللسان، فى بعض الأعمال الفنيّة؛ تنمُّرٌ مُستنكَر، وتشويه مقصود مرفوض»؟!.. هو بالطبع تنمر مرفوض، وتشويه مقصود، وقد ورد بالفعل فى المسلسل الذى كتبه «كبيرهم الذى علّمهم الجعير»، وإلا فما المقصود من رد الممثل القائم بدور الشيخ الأزهرى على بطلة المسلسل قائلًا: «ده الرد اللى أنا حافظه»!.

«اللى أنا حافظه»؟!.. أليست هذه العبارة تشويهًا مقصودًا ومتعمدًا؟!.. «والنبى ما حدش يقول لى دى شخصية درامية، لأن المسلسل كله عبارة عن مقال رأى متقطع لكاتب صحفى كان حلمه إنه يبقى فنان، بس ربنا ما ادالوش فى الحتة دى»، طلع كومبارس فى كام فيلم، وكتب سيناريوهات وهو شاب واترمت واتضحك عليها، وبيكتب روايات لا رواية فيها، لكن الأمر لا يخلو من مجاملات لبعض الأصدقاء، أو التابعين ورفاق السوء، سمهم ما شئت.. فقد كتب مؤخرًا سيناريوهات أفلام، وأخرجها له أصدقاؤه من العاملين فى الوسط الفنى، ومولها مثلهم، لكن هل يكفى هذا لاعتبارها من الفن فى شىء؟! يمكن ذلك بالطبع إذا وضعناها فى سياق مماثل لموجة أفلام المقاولات التى انتشرت خلال السنوات الأخيرة من الألفية السابقة.

نعود إلى بيان الأزهر، والشىء المسمى مسلسل، لنجد أنه عندما ردت مشيخة الأزهر موضحة أنها لم تصدر أى بيانات فى هذا الشأن، كما أن شيخ الأزهر لم يصدر أى تعليقات على مسلسل «كذا»، مؤكدًا أن ما يتم تداوله عارٍ تمامًا من الصحة ولا يمت للحقيقة بصلة- أخذوا «يجعرون»: البيان لا يزال على الموقع؟

نعم البيان المقصود لا يزال على الموقع، وأتمنى بشكل شخصى أن يظل على الموقع، لأنه باختصار ليس ذلك البيان الذى تتحدثون عنه، وتحلمون به، ولا يعرف مصدره من أنتم!

البيان الموجود على موقع «بوابة الأزهر الشريف» هو بيان لدعم الفن والإبداع الواعى المستنير، ولرفض التشويه المقصود والمتعمد، ولم يصدر باسم العالم الجليل، الشيخ أحمد الطيب، ولم يُشر من قريب أو بعيد إلى «كبيركم الذى علّمكم الجعير»، ولن يرد عليه، أو يلتفت له.

والحقيقة أن هؤلاء «التنويريين الجدد» لا يختلفون كثيرًا عن الإرهابيين والمتطرفين، على الأقل فى تعاملهم مع كل ما يصدر عن «الأزهر الشريف»، فلا يجدون فيه غير باب للرفض و«الجعير» والإدانة، وإلا فماذا يؤلمهم فى القول بأن «تجديد الفكر وعلوم الإسلام حِرفة دقيقة، يُحسنها العلماء الرَّاسخون فى المحاضن العلمية المُتخصّصة، قبل نشره على الشاشات أو بين غير المُتخصّصين، والفكر المُتطرف فى أقصى جهتيه جامد يرفض التجديد بالكلية فى جِهة، أو يُحوِّله إلى تبديد للشَّرع وأحكامه فى الجِهة الأخرى».. نعم، كلا الفريقين يريدان أن يسير الأزهر الشريف على هواهما، أو كما يريدان.. فقط لا غير، وهو ما لم يحدث، ولن يحدث، ولن يكون فى صالح أحد من أبناء هذا البلد.

قبل أن أختم، لعله من المناسب هنا أن أذكر أننى قبل عدة أسابيع شاهدت الفيلم الفرنسى «لوست إيلوشنز» أو «أوهام ضائعة»، وهو الفيلم المبنى على قصة «رجل المقاطعات العظيم فى باريس» لأونوريه دى بلزاك، الكاتب الفرنسى الشهير، الذى تدور فكرته حول قصة صعود وسقوط شاب كان يحلم بأن يكون شاعرًا، فانتهى به الأمر إلى العمل كصحفى، ولسببٍ ما وجدتنى، خلال الأيام الماضية، أستحضر بعضًا مما جاء فى الفيلم، خصوصًا تلك المرحلة التى عمل خلالها بطل الفيلم فى صناعة صحافة الفضائح الصفراء، وأساليب عملها، واختلاطها بأساليب عمل الجمهور المستأجر فى المسارح بهدف توجيه الجمهور العادى، سواء باستحسان العرض، أو التنفير منه، وهو ما ذكرنى بسنوات الشباب، فى تسعينيات القرن الماضى، وقتها كنت أعمل بإحدى الصحف الخاصة الأكثر توزيعًا، وأذكر أن مدير تحرير الجريدة، الذراع اليُمنى لرئيس تحريرها «الصحفى الذى ما زال يحلم بأن يكون فنانًا»، أراد أن يعلمنى كيف تلفت أنظار القراء، وتظل فى بؤرة اهتمامهم، فضرب لى مثلًا بشخصين يمشيان فى الشارع، أحدهما يلتزم بالقواعد والأصول، وبالسير على الرصيف، والثانى يمشى فى منتصف الطريق، وسط العربات، وهو يرمى الناس بالحجارة، ويصرخ بأعلى صوته، ويشتم هذا ويسب ذاك، ثم سألنى: «أيهما سوف يلتفت إليه الجميع؟»، وقتها ابتسمت ولم أرد عليه، وإن كنت أود أن أسأله بدورى: 

«ولكن أيهما سوف يحترمون؟!»