رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العائدون.. لسه الكلام مانتهاش بينّا!

منذ ما يزيد على عشر سنوات مضت والناس فى بلادى يعيشون فى قلب السياسة.. هذه الكلمة التى كانوا يهربون منها.. ولا يعترفون بوجودها إلا فى نشرات الأخبار.. أو بالأحرى قل فى نشرة التاسعة مساءً عقب «حديث الروح».. بعدها كانوا يفضلون الفرجة على فيلم السهرة.

عشر سنوات صارت فيها السياسة فيلمًا نعيش أحداثه كل ثانية.. وصارت المفردات التى كنا نهرب منها إلى «ليالى الحلمية» و«ضمير أبلة حكمت» و«جدو عبده اللى زارع أرضه» توابيت وأكفانًا تطاردنا فى الشوارع.. صارت السياسة همًا يمشى على قدمين.. حتى نزعت من بيوتنا وعيوننا الأمان الذى كنا نمله.. صرنا نبحث عن الاستقرار الذى كنا نكرهه ونعتبره «تعاسة» لا بد لنا من مغادرتها حتى ولو بالهجرة غير الشرعية إلى بلاد خلق الله التى لا نعرفها.

السنوات التى تلت أحداث الخامس والعشرين من يناير بتفاصيلها المزعجة صارت طقسًا سيئ السمعة.. فقررنا الابتعاد عنها بكل ما فيها.. كأننا لا نريد أن نتذكرها.. فصار الكلام عن الدستور والبرلمان والقانون.. عن الأحزاب والمؤامرات والقوى الخارجية رجسًا من عمل الشيطان علينا اجتنابه.

هكذا يفكر معظمنا.. ولذلك نحن كثيرًا ما نهرب إلى «الموبايل» نبحث عن نكتة جديدة.. عن أغنية هبلة فى صيغة مهرجان أهبل لا معنى لكلماته ولا لموسيقاه الصاخبة.. وكأننا فقط نريد «حلقة زار مستمرة» تنفضنا وتنفض عن كاهلنا ذلك الهوس السياسى الذى حاصر منطقتنا ثم وجدنا أنفسنا فى القلب منه.. لم نعد نريد سوى ذلك الاستقرار.. ذلك الهدوء.. ذلك الأمان.

ربما لهذا السبب ولأسباب أخرى- ليس وقت الحديث عنها الآن- أصبحت مهمة الكشف عما جرى فى تلك السنوات.. عما كان فى خلفية الصورة والأحداث.. مهمة صعبة لمن يتصدى لها.. فمَنْ ذا الذى يجرؤ على مواجهتنا بما لا نريد أن نسمعه أو نراه.. وأعتقد أن أهل الدراما فى بلادى هم أول الذين قرروا مبكرًا فضح ما جرى.. وبأسلوب فنى محترف.. ومسلسل «العائدون» هو أحد هذه الأعمال الكبيرة التى لا تريد خداعنا أو الضحك لنا أو علينا.. إنه عمل فنى لا يريد تخديرنا مجددًا.. هو عمل كاشف لمهمة صعبة ومستمرة.. ويبدو ذلك من مقدمة الحلقة الأولى، حيث أراد صنّاع العمل أن نبدأ من «مطاردة» لم نعرف متى بدأت.. ولم يخبرنا أحدهم بأنها ستنتهى قريبًا.. بل إن اللحظة التى توقف فيها «أمير كرارة» بالموتوسيكل الذى يستقله ليقوم بتخدير العنصر الهارب الذى يطارده، هى ذاتها اللحظة التى أعلن فيها صنّاع «العائدون»، على طريقة أهل المسرح، أنها «دقات البداية».. بداية مطاردة من نوع آخر.. جرت وقائعها خارج القاهرة فى بلدان متعددة.. وفى القاهرة ومحافظات أخرى تسلل إليها العائدون من «وهم الخلافة» إلى بلادنا لتفجيرها.

العائدون.. مصطلح كنا نظنه، حتى قريب، يخص بعض أولئك الذين سافروا إلى أفغانستان لحرب «الشيوعيين».. ثم سرعان ما عادوا إلى البلاد لمهمة أخرى يعتقدون أنها حلقة جديدة فى حربهم «الجهادية الكبرى» لنشر الإسلام.. كأن الإسلام لم يكن بيننا طيلة أربعة عشر قرنًا.. وكأننا لم نعرفه وسنعرفه على يد هؤلاء «الجهلة».

لكنْ العائدون الذين يتحدث عنهم مسلسل «أمير كرارة» غيرهم وإن لم تختلف أدواتهم ورغباتهم وغاياتهم ومهماتهم.. العائدون هذه المرة جاءوا من بلدان ليست بعيدة.. وفى أزمنة أقرب.. هم شباب سافروا بعد أحداث يناير ليتم تجنيدهم.. وتدريبهم لإكمال المهمة.. المهمة الكبرى.

هذه المرة.. هم بعض الذين وقعوا فى حبال «داعش».. سواء عملوا فى العراق أو سوريا لوقت محدد قبل أن يعود التنظيم لاستخدامهم فى مصر.. هؤلاء الذين لم نكن نعرف عنهم شيئًا قد خرجوا من مصر فى ظروف كانت مؤسساتنا قد أُنهكت وتعرضت لكثير من العطب فى ذلك العام الحزين الذى وصل فيه الإخوان وحلفاؤهم إلى السلطة.. وفى مواجهة هؤلاء كان الرجال الذين أعدتهم البلاد وحمّلهم الله مسئولية حماية حدودنا يستعدون.. يستعدون لملاقاة العائدين الذين لا نعرفهم ولا يعرفونهم. 

فى الحلقات الخمس الأولى من المسلسل حاول المؤلف باهر دويدار أن يكون «صاحب جملة مكثفة وسريعة»، وحاول مدير التصوير أن تكون الصورة «قاتمة» سوداء أحيانًا.. فهؤلاء الذين يعيشون بمعزل عن العالم كله لا حياة لهم مثل الصراصير إلا فى الخنادق.. هم «خفافيش هذه الأيام».. والخفافيش لا تعرف طريق النور. وحاولت الموسيقى أن تختصر هى الأخرى الأزمنة التى تلقى فيها هؤلاء تدريبهم.. مثلما اختصرت أعمار أهلنا الذين كبروا فجأة وأصابتهم أمراض الشيخوخة.. وبقدر ما يبدو الأمر مزعجًا لأى ممثل إلا أن القدرات الخاصة لفنان مثل محمد فراج كانت كافية بأن تصل بنا إلى «الذروة».. ذروة أن يفقد الرجل روحه فداء لبلده وانتقامًا لمن ذهبوا ضحية هؤلاء «الغوغاء» الذين اُبتليت أمتنا بهم.. مشهد حرق محمد فراج وحده كفيل بأن يذكرنا بتلك العمليات التى نسيناها فى غمرة ما عشنا من أحداث متلاحقة.. وهو مشهد يعيد إلى ذاكرتنا مآسى «داعش» فى ليبيا والعراق وغيرهما من البلدان التى سقطت فى قبضته.

أداء أمير كرارة الهادئ، وأمينة خليل ومحمود عبدالمغنى، فى موضعه تمامًا.. فنحن لسنا أمام فرجة مسرحية للمتعة فقط.. أنت أمام «محاضرة» واجبة لنعرف ما جرى.. هذا عمل مدهش وكبير ويحتاج إلى جهد موازٍ فى «عملية الفرجة» عليه.. وأظن، وأن بعض الظن ليس إثمًا، أننا فى حاجة إلى إعادة عرضه فى وقت آخر.. بعيدًا عن زحمة مسلسلات رمضان لأهمية الرسالة التى يقدمها.. هو عمل فكرى بالأساس.. حتى وإن تشابهت رسالته مع ما وصلنا من «هجمة مرتدة».. الأمر هذه المرة مختلف فى تفاصيله.. فالعمليات التى يتحدث عنها هى عمليات شديدة «النوعية»، كما أنه فى المقابل لا يرصد أفكار داعش.. لا يناقش أفكارهم وسلوكهم وإن مر عليها- مثلما هو الحال فى قضية نكاح الجهاد- لكنه يتعرض لما هو أخطر.. تلك العمليات الحديثة جدًا فى تسليح وتجنيد ومهمات «تنظيم الدولة» وفى المقابل العمليات الأحدث ووسائل الكشف والتتبع التى يتعامل بها رجالنا.. رجال الواجب.

إننا بصدد عمل فنى من ناحية.. وعمل وطنى من ناحية أخرى.. ولا يزال العمل فى بدايته لم يكشف عن كل ما أراد صنّاعه مواجهتنا به بهدوء ودون «زعيق».

العائدون.. فكرة تحتاج إلى تأكيد مستمر.. هم لن يتوقفوا عن حربهم.. ونحن قطعًا لن نتوقف عن مواجهتهم.. ومهمتنا أصعب كما جاء على لسان «سياف».. فما أصعب أن تواجه عدوًا لا تعرف عنه أى شىء.. ولا متى سيوجه لك الضربة القادمة.

لكن رجالًا فى مكان ما- لا نعرفه- فى بلادنا.. داخل حدودنا.. وخارجها.. يعرفون ماذا يريد العدو.. ويطاردونه.. فى الليل والنهار.. وفى أحلامه أيضًا.. ولا أعتقد أنهم سيتوقفون عن «المطاردة».. ولسه الكلام مانتهاش بينّا.. هذه هى الرسالة التى يوجهها لنا أصحاب الرسالة فى «العائدون» وأعتقد أن رسالتهم وصلت.