رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوطنية

قال جورج برنارد شو «٢٦ يوليو ١٨٥٦ - ٢ نوفمبر ١٩٥٠»، الكاتب الأيرلندى الشهير، إن السلام لن يحل بالعالم إلا إذا اختفت كلمة «الوطنية»، بالطبع هو أراد أن يُحدث صدمة فى العقول، لأنه يدرك جيدًا أن مفهوم الوطنية قد شابه الكثير من التشوه والتعصب والعنصرية التى لا بد أن تؤدى عاجلًا أو آجلًا إلى كوارث تهدد السلام العالمى.

أعتقد أن جورج برنارد شو بالطبع لم يقصد أن تزول فكرة الوطن، ولكن أراد لها أن تتسم بالإنسانية الرحبة، وأن نحب العدل والحرية والتقدم لكل الأوطان بالقدر نفسه وبالحماس ذاته وليس فقط الأرض التى ولدنا بالصدفة عليها ونسميها الوطن، وأن نتمنى السعادة والازدهار لكل البشر وليس فقط للبشر الذين يحملون جواز سفرنا ويعتنقون معتقداتنا ويعيشون معنا.

لست أعتقد أن هناك بلادًا أو أفرادًا قد تخلصوا تمامًا من تمييز أوطانهم عن الأوطان الأخرى بأشكال ودرجات مختلفة، هو فعلًا تحدٍ ليس سهلًا لكنه أمر يستحق المحاولة الجادة المستمرة.

لا بد أن نقوم بعملية «أنسنة» لمفهوم الوطن والوطنية، لا بد أن نحب لوطننا ما نحبه للأوطان الأخرى، ثانيًا: لا بد أن يكون حبنا لوطننا مرادفًا لتخليص الوطن من جميع أشكال المعاناة، ثالثًا: لا بد أن ندرك أن حبنا لوطننا هو أن نكشف سلبياته أولًا بأول حتى لا تتفاقم ويصبح من الصعب تغييرها.

مثلًا حب الوطن يعنى أن ننتشله من الإقامة تحت خط الفقر، تلك الظاهرة البغيضة القبيحة التى تضرب الحد الأدنى من الإنسانية فى مقتل، وأن يكون التخلص منها أولوية أولى كبرى.

لقد أعلنت الصين منذ عامين، عن إبادة الفقر نهائيًا، وسوف تعمل على ألا يعود الفقراء مرة أخرى، وأن عام ٢٠٢٢ يحقق الحياة الرغيدة لكل مواطن صينى.

إذن كنت محقة حينما اعتقدت أن الصين فعلًا جديرة بأن تصل إلى قمة التقدم الإنسانى وتجربة مدهشة من بلد عريق الحضارة والحكمة، أدركت الصين أن «الفقر» هو وصمة عار على جبينها المكافح الدءوب، وأن أى إنجاز مهما كانت عظمته سوف ينكسر على صخرة الفقر.

وقناعتى أن «تصفية» الفقر هى أشرف وأهم وأول حرب على أى مجتمع خوضها ليكتسب صفة الإنسانية، ولكى يثبت أن حب الوطن ليس بالأغانى والشعارات والتمنيات ولكن بمواجهة كبرى التحديات حتى النهاية.

فى مصر قرأت أنه يتم تخصيص مليارات من الجنيهات من الصندوق الاجتماعى للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر لمواجهة البطالة بين الشباب، وهذا شىء عظيم ومبشر بالخير لكن ليس كافيًا.

أعتقد أن الحل الجذرى هو تحويل مصر من وطن «طارد» لأهله إلى وطن «جاذب» لهم، الحل هو تغيير النمط الاقتصادى والفلسفة الاقتصادية والنظام الاقتصادى الذى ما زال يعمل لصالح الأغنياء والطبقات صاحبة الامتيازات، الحل هو ما أسميه «المشروع الوطنى العادل للإنتاج والتوزيع». فالوطن سيظل طاردًا ما لم ينجز العدالة الاجتماعية، والعدالة الاجتماعية هى ألا يُحرم الفقراء من المدارس الجيدة ومن القطارات الفاخرة ومن البيوت اللائقة ومن منتجعات المصايف ومن حفلات دار الأوبرا ومن الأندية الرياضية الممتازة، بسبب أنهم «فقراء» هذا ليس خطأ اقتصاديًا بقدر ما هو عيب أخلاقى لا يجب على أى دولة متحضرة انتهاجه أو الدفاع عنه.

إن طموحى لمصر كبير، فأنا أحلم أن تكون وطنًا لا تختفى فيه الهجرة «غير الشرعية» فقط لكن أيضًا «الهجرة الشرعية»، حتى لو كانت الهجرة مُرخصة وقانونية ومسجلة وآمنة فإن مصر أولى بأهلها.

القضية كما أراها ليست فى نوع الهجرة، شرعية أم غير شرعية، القضية هى: «لماذا أهاجر أصلًا وأترك وطنى؟»، القضية هى فى مبدأ الهجرة فى حد ذاته.

الإجابة التقليدية هى: بره فيه تقدم وتحضر ورقى وكرامة وكل حقوق الإنسان، وأنا أرى أن الوطن الذى علمنى وربّانى وأكلت وشربت من خيراته له حق علىّ.. ليه مقعدتش فيه أنا وغيرى عشان أخليه زى بلاد بره فيه تقدم وتحضر ورقى وكرامة وكل حقوق الإنسان؟

إن المشاركة فى تقدم وطنى أكثر متعة من الاستمتاع وأعمق المتع، أبسط شىء فى هذه المتعة هو دليلى على حبى لوطنى، لكننى فى الوقت نفسه أحب هذا لكل الأوطان على كوكب الأرض، نحن نغنى لحب مصر طول الوقت، لكن العبرة أن يكون هذا الحب مثمرًا فى الواقع بما يفيد مصر ويغيرها إلى الأفضل، ونظل نكرر أننا نعشق تراب هذا الوطن.

لكن الأهم أننا نبقى فى الوطن لنحول ترابه إلى ذهب، وعلينا أن ندرك أن تراب الوطن هو جزء وامتداد لتراب الإنسانية كلها.

يزهو عبدالوهاب شاديًا على لحن فى منتهى العذوبة، «حب الوطن فرض عليا» تأليف أمين عزت الهجين، وأقول له إن حب الأوطان كلها واجب إنسانى علينا، فكلمة فرض تحمل معنى دينيًا يفرق ولا يجمع، يصنع أفضلية لا تساويًا.

إن حب العلم والإنسانية الرحبة يجعل العلماء فى كل مجال يفخرون بأن اكتشافاتهم ستفيد كل الناس، كل البشرية، كل الأوطان، وليس مجرد أوطانهم أو بلادهم.

وحب الوطن مثل كل أنواع الحب لا بد أن يصمد فى الشدائد والمحن، وإلا كان حبًا مزيفًا هشًا أو حبًا نفعيًا انتهازيًا يجرى من الأزمات، يهرب من التحديات ويأتى مع الانفراجات والازدهار.

من بستان قصائدى 

اقتلعتم أجمل الورود.. بعتم الوطن رخيصًا 

بالدولارات والدينارات والريالات.. واشتريتم الديناميت والبارود 

قصفتم الأقلام بالإشاعات 

وقضايا الحسبة والازدراء .. أخفيتم وراء الشمس 

وجوه وشَعر النساء 

حينما توارون التراب.. سندفنكم ونحن نزغرد

السماء الشحيحة ستمطر.. والطيور الخرساء ستغرد.