رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التداول الآمن لبهجة الربيع

بداية، هذا المحتوى التحذيرى بالمقال ليس من بنات أفكارى، بل هو حديث الطب، وكل المعلومات الواردة بالمقال لا تمثل رؤيتى أو وجهة نظرى، وكل ما أسرده هنا هو على مسئوليتى، وكما هو معلوم باق أيام ويهل علينا عيد الربيع والمفترض أنه نزهة للنفس وفرصة تمنحها الطبيعة للانتقال الآمن بين الفصول ونحن نغادر شتاءً قاسيًا لنخوض صيفًا حارًا.

ارتبط هذا اليوم بعادة شعبية وهى تناول وجبة الفسيخ ،وهى عادة موسمية منذ أيام الفراعنة، وحقيقته أنه سمك مجفف بطريقة نزع الرطوبة عن طريق التجفيف أو التمليح بقصد عدم إتاحة بيئة مناسبة لنمو البكتيريا اللاهوائية من ناحية، والتسبب فى نضج واهتراء أنسجة السمكة، ومن ناحية أخرى تؤكل نيئة إلا أنها فى الحقيقة مطهية كيماويًا بهضم الخمائر البكتيرية.

دعونا نناقش صلب القضية وهو التحذير من مهلكة التسمم بميكروب البوتيولزم وفهم الأسباب تمهيدًا للتسليم بفهم الضرر والتهيؤ لتغيير العادة.

بعيدًا عن التعفن والتحلل البكتيرى العادى للسمكة، يحدث التسمم عند الإصابة بميكروب السالمونيلا، وهو ميكروب من العائلة البكتيرية التى تنشط فى غياب أو قلة تركيز أكسجين الهواء، أى عندما يكون السمك مطمورًا بمعزل عن الهواء.

ليس من الضرورى ظهور رائحة للفسيخ الفاسد المُسمم فلا رائحته مختلفة ولا هى مميزة، كما أن اللون ليس بالضرورة متغيرًا، ولا ضمانة بوجود تغير فيزيائى على السمكة المسممة.

قد يشكك أحدهم فى شدة هذا التحذير، قائلًا إنه يعتاد أكله لسنوات ولم يشك سابقة تأذى. نعم هذا صحيح ولكن كونك لم تمت قبل اليوم من الفسيخ فلا ضمانة بأنك محصّن بعد الوجبة القادمة.

يجب الأخذ فى الاعتبار بتجاهل الربط بين سعر الفسيخ واحتمالية التسمم، إذ لا عبرة بسعر الفسيخ وشهرة البائع أو العلامة التجارية، ولا دخل للصناعة فى التسمم، لأن ميكروب البوتيولزم اللاهوائى ليس مرهونًا بنظافة المكان أو وعاء التمليح لأن المسألة برمتها تعتمد على أسبقية خروج الميكروب من حالة التحوصل إلى الحالة البيولوجية النشطة فى سباق مع ظروف التمليح، وبفرض أنك اشتريت المنتج من أرقى المصادر، فالمسألة لا علاقة لها بمكان التصنيع أو آلية التحضير أو نظافة الأسماك أو جودتها أو مكان البيع.

لتفهم خطورة الفسيخ إذن، فهناك عملية تحول فجائية فى تمليح السمك تسمح بنمو ذلك الميكروب اللاهوائى وهو موجود بالطبيعة وكامن ومتحوصل أى أنه يظل محيطًا نفسه بغلاف ويظل كامنًا لعقود إلى أن تتوافر فرصة تحسس نسبة الرطوبة ونقص الأكسجين، فتدب فيه الحياة وينشط ويتكاثر فى بضع ساعات ويفرز السم القاتل، وينشط الميكروب لحظة تدنى تركيز الأكسجين فى الوسط الغذائى، وهذه هى العقبة التى لا ضمانة لأى صانع بتجنبها حتى وإن تم تحضير الفسيخ فى الثلاجات، لأن العلاقة فقط ترتبط بانخفاض مستوى الأكسجين وبعدها ينشط الميكروب المتحوصل ويفرز سمومه على الفور وتذوب فى نسيج السمكة.

السم لا يمكن غسله أو إزالته أو معادلته بالخل أو الليمون أو أى إضافات متى تناولت السم، فالموت حتم اللهم إلا فى ظروف علاجية قد لا تتاح فى الظروف التقليدية، ولوحظ أن الميكروب لا يتأثر بدرجة تركيز الملح فى السمكة، فهو جاهز للخروج من حالة التحوصل للحالة الحية النشطة بفعل تركيز الأكسجين ودرجة رطوبة معينة.

للأسف لا عبرة لكمية الوجبة بشدة التسمم، فمن الممكن أن يموت الإنسان من بضعة جرامات من الفسيخ. الصدفة هى التى تقدر البقعة المسممة من نسيج السمكة أو انتشار السم مع الرطوبة بلحم السمكة، ويجب العلم بأن السم يستهدف الجهاز العصبى ويحول دون عمل عضلات التنفس، ومتى حدث الالتحام بين السم والجهاز العصبى، فلا ضمانة بالشفاء أو التداوى.

بيد أن محاولات العلاج الحقيقية المفترض عملها للنجاة غالبًا ما تكون وهمية ولا تتوافر فى أرقى المصحات العلاجية وتتضمن وضع الضحية فى وعاء أكسجين تحت ضغط مرتفع وهى ما تعرف بخيمة الأكسجين، وهى غير متاحة بمعظم الأماكن، أو بقاء الضحية متصلة بجهاز التنفس الصناعى لحين معادلة السموم التى وصلت للجهاز العصبى، هذا بالطبع فى حالة أن فلح الأمر، ناهيكم عن أن سعر المصل وتكلفة علاج الحالة الواحدة بذمة مهنية تتكلف قرابة النصف مليون جنيه مصرى.

فى الحقيقة، لا يوجد بسجلات الصحة فى مصر لا أذكر عبر مراجعة السجلات الطبية أن حالة واحدة من تسمم البوتيولزم اللاهوائى تم علاجها، فالأمر ضرب من الخيال.

وفى نفس السياق التوضيحى يجب العلم بأن خطر تلف الأطعمة وتلوثها ببقية عائلات البكتيريا التى يمكن أن تصيب الأطعمة العادية أو حتى الفسيخ مثل الميكروبات القولونية المعروفة شيوعًا بالـ«إيكولاى»، وكذلك البكتيريا السبحية والعنقودية والتى فى آخرها لن تزيد عن كونها «نزلة معوية» يسهل علاجها بتكلفة لا تذكر، لذلك يعتبر التسمم الغذائى العادى والنزلات المعوية أقل ضررًا من التسمم بميكروب البوتيولزم اللاهوائى. 

صحيح أن فرصة التسمم فى تصنيع الفسيخ قليلة، بحكم الرصد الإحصائى البسيط غير العلمى، ولكنها ليست مستبعدة، والقضية هى أن تدرك الضرر وتقرر وحدك المفاضلة بين وجبة قد يعتبرها البعض شهية والحياة.

لاحظ أن البديل الأفضل الآمن للفسيخ هو السمك المدخن والمعروف تجاريًا بسمك الرنجة، وهى وجبة آمنة لأن التالف منها يمكن تمييز رائحته ولونه.