رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتهم الحقيقى فى قتل القمص

حرّمت كل الأديان وكل القيم الإنسانية الراقية القتل، وإن كان بعض العادات القبلية المتخلفة يمارس القتل فى مواجهة القتل وليس بأحكام القانون، ذلك لأن الإنسان الذى خلقه الله وكرّمه، أيًا كان دينه ولونه واسمه، لا يصح أن يكون ذات الإنسان الذى يحاسب ويحكم ويقتل، ولذا نرى ذلك الحكم الجميل الذى يقول إن قتل إنسان بلا حق هو قتل للناس جميعًا، والغريب والمرفوض والممقوت هو أن يتم القتل بلا سبب غير الاختلاف فى الدين، أى على أرضية الهوية الدينية وليس على أرضية طائفية.

لذا وجدنا ذلك المريض نفسيًا والمغيّب فكريًا يقوم بقتل القمص أرسانيوس وديد، على كورنيش الإسكندرية ليلة الخميس الماضى.. فالقمص كان يسير مع عدد من أبنائه فلماذا لم يعتدِ الجانى على أحدهم غير الاعتداء على القمص؟ لأنه مُصر مع سبق الإصرار والترصد على قتل القمص.. هل قتل الجانى القمص لأنه مسلم والقمص مسيحى؟ أى هل يجب أن تكون هذه القاعدة؟ بالطبع لا وألف لا.. لأن الإسلام لا يجيز للمسلم قتل أحد لم يعتدِ عليه.. إذن لماذا يقوم القاتل، أى قاتل، بالقتل على أرضية دينية؟ هذه هى القضية.. فعندما يتم استغلال الدينى لصالح السياسى نرى كل الممارسات المرفوضة دينيًا وأخلاقيًا وإنسانيًا.. والاستغلال الدينى هنا هو أن تعلن جماعة لها أهداف سياسية فى المقام الأول والأخير بهدف الوصول للحكم بحجة تحقيق أحكام الدين وتطبيق الشريعة، فهذا هو استغلال الدين، حيث إن هذه الجماعة أو تلك تعتبر أن منهجها وبرنامجها السياسى هو الدين، ومن لا يؤمن بهذا المنهج أو يرفض ذلك البرنامج فهو رافض للدين! فإذا كان الرافض هو مسلم الديانة، فما بالك عندما يرفض مواطن مصرى مسيحى هذا البرنامج السياسى؟ سيكون فى نظر هؤلاء رافضًا ومحاربًا للإسلام!. 

ومالى أذهب بكم بعيدًا.. فعندما كانت هناك مظاهرة أمام مقر الإخوان المسلمين بالمقطم فى عام حكمهم، قال خيرت الشاطر إن المتظاهرين كانوا أقباطًا يتحدثون القبطية!! وكانوا رافضين الإسلام وشريعته.. وكأن الإخوان هم الإسلام.. وهنا نسأل: إذا كان الإخوان وبرنامجهم وسلوكياتهم هم الإسلام، فما هو موقع الجماعات الإسلامية والسلفيين وداعش من الإسلام؟ حيث الجميع يدعى أنه الإسلام والإسلام منهم برىء..وما يؤكد ذلك أن أحد التسريبات التى جاءت فى مسلسل «الاختيار» أكدت ذلك الصراع بين الإخوان والسلفيين، حتى إن الشاطر كان يبلغ عنه الأمن!! إذن القضية ليست الدين ولكنها الاستغلال والمتاجرة بالدين.. فما علاقة هذا الكلام بمقتل الكاهن؟ العلاقة والقضية هى رفض الآخر الدينى.

فإذا كان الصراع بين فصائل سياسية إسلامية تتاجر بالدين وترفض بعضها البعض، فهل سيكون هناك قبول لغير المسلم فى دولة الإسلام التى يزعمونها؟ أما الأهم فهو عمليات غسيل المخ للشباب وغيرهم، حيث تُستغل العاطفة الدينية لدى الشباب تحديدًا لإقناعهم بأن هذه التنظيمات وتلك الأحزاب هى التى تعمل على تطبيق الشريعة وهى التى تحمى الإسلام من المؤامرات التى تدبرها الدول الخارجية المسيحية.. تلك الدول التى تجند المسيحيين المصريين للمشاركة فى هذه المؤامرات.. «سليم العوا: الكنائس مكدسة بالأسلحة».. هنا تثور حمية الشاب المسلم الذى من الطبيعى أن يدافع عن دينه.. فما بالكم، دام فضلكم، من تلك الفتاوى الساقطة التى تصدر عن السلفيين خاصة فى مدينة الإسكندرية التى يسيطر عليها هذا التيار.. يقول برهامى: «إذا تزوجت مسيحية وأنجبت منها أطفالًا فيجب أن تكون لها كارهًا وإلا لا يُقبل إسلامك»!، يقول فُض فوه: «إذا أراد مسيحى أن توصله إلى كنيسة فيجب أن تسوقه إلى خمارة»!! ناهيك عن مشاركة جميع هذه الفصائل التى تتاجر بالإسلام فى عدم شرعية المسيحى فى تبوؤ أى منصب «رئاسة الجمهورية، الوزارة، البرلمان... إلخ».. ولا يحق له دخول الجيش لأنه سيكون منحازًا للعدو المسيحى الذى يشاركه دينه!!! وعليه بدفع الجزية صاغرًا. 

هذا هو فكرهم وهذه هى مناهجهم وتلك هى أفكارهم الدينية فى تفسير النص الدينى، فهل صحيح الإسلام ومقاصده العليا يجيزان ذلك فى زماننا الحالى؟ بالطبع لا. «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شىء شهيد».

هل هناك أهداف أخرى؟ نرى أنه وبعد محاصرة الإرهاب، والحمد لله، وبعد السير فى طريق تحقيق المواطنة الحقيقية، ذلك الطريق الذى خوّل وجود أقباط فى مواقع لم يتواجدوا بها سابقًا، مثل موقع المحافظ، ودخول أعداد فى كليات الشرطة والحربية، ناهيك عن قانون بناء الكنائس، وقاعدة بناء مسجد وكنيسة فى المجتمعات الجديدة، وحضور الرئيس الاحتفال بعيد الميلاد فى الوقت الذى يقولون فيه بعدم المعايدة على المسيحى.. كل هذا وغيره كثير، وفى دولة يحكمها مسلم وتلتزم بالمقاصد والأحكام القطعية فى الشريعة الإسلامية، هذا قد سحب السجادة من تحت الأقدام. 

فلا مانع من اقتراف مثل هذه الجريمة للفت الأنظار ولإعادة إحراج النظام السياسى خارجيًا، وإحداث فتنة طائفية داخليًا.. ولكن هيهات أن يحدث ذلك، لأن تجارب التاريخ واللحمة الجينية الواحدة لن تنهار أمام هؤلاء.

ولكن هذا لا شك يحتاج إلى عوامل لتقوية المناعة تجاه مثل هذه الممارسات، فكيف تكون هناك أحزاب سلفية غير دستورية ولها أعضاء فى البرلمان والشيوخ؟ كيف يتم السكوت عن أصوات وأقلام ما زالت تُكفّر المسيحى وتزدريه وتُسقط عنه المواطنة؟ كيف يكون ذلك فى ظل دستور وقانون يساوى بين المصريين جميعًا دون أى استثناء؟ 

الدين لم يرسم شكلًا محددًا للدولة ولنظام الحكم، ولكن هناك قيمًا يجب الالتزام بها فى ظل أى شكل من أشكال الحكم، تلك الأشكال والأساليب التى تخضع للمتغيرات السياسة والتطورات الثقافية، فالدولة مدنية.. حافظوا على مصر، فمصر هى الوطن، الذى هو وطن كل المصريين.. حافظوا على توحدنا المصرى لأنه بدونه لن نكون «مسلمًا أو مسيحيًا».

كلنا خليقة الله سخّر لنا الكون لنعبده كل بطريقته، ولكى نعيش ونتعايش لنعمر الكون كما أمرنا الله الواحد الذى نعبده جميعًا.. حمى الله مصر والمصريين من كيد الكائدين الذين لا يعرفون غير مصالحهم وعلى حساب الجميع.