رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زراعة الأمل فى صحراء أكتوبر

بينى وبين الأرقام علاقة مرتبكة.. لا أُجيد عمليات الحساب والطرح والقسمة.. تهزمنى دومًا ألاعيب الرياضيات.. القديمة منها والحديثة.. أكاد أقول «أكرهها».. لكننى مثل الملايين من أهلنا مجبر على التعامل معها صباح مساء.. فكل أيامنا أرقام والأهم من تلك الأرقام ما تعنيه.. وما وراء جمعها وطرحها.. جبرها وكسرها.. فالخوف كل الخوف أن «تكسرنا» هذه الأرقام فى لحظة ما.. ورغم هذه الكراهية المستورة أجدنى مضطرًا لمتابعة أسعار العملة والاحتياطى النقدى.. والإنفاق.. وعجز الموازنة وما شابه من تفاصيل.. أمُر عليها سريعًا ويكاد قلبى يتوقف لو أفزعنى رقم ما منها.

فى الشهور الأخيرة.. وبسبب تداعيات أزمة الفيروس اللعين كورونا.. وبسبب تغيرات المناخ أيضًا، صارت للأرقام معانٍ أخرى لم نكن ننتبه لها من قبل.. فانخفاض عدد من الأرقام فى درجات الحرارة يعنى ببساطة احتمال إصابة أحد أطفالى بنزلة برد.. وما أدراك ما نزلات البرد.. يعنى أقراصًا وحقنًا واعتكافًا بالمنزل وحرمانًا من الذهاب للمدارس وأموالًا مضاعفة للدروس الخصوصية للتعويض.. مجرد نزلة برد تقتحم منزلك الآن تعنى عشرات الأرقام، وأهمها قطعًا تلك التى تأتى من «صاحب الصيدلية» المجاورة للمنزل.

ليس هذا فقط.. بل إننا صرنا مُغرمين بمتابعة النشرات الجوية لنعرف فى أى منخفض نحن الآن.. واسم العاصفة المحتملة.. برد ولا حر.. ما تفرقش.. هناك أرقام قطًعا ستتحرك وستجبرنا على فعل أشياء لم نكن نفعلها من قبل. ليست كل الأرقام مرعبة بالتأكيد، فهناك أرقام مفرحة قطعًا مثل تلك التى تحددها وزارة المالية قبيل نهاية كل شهر لمواعيد صرف الرواتب.. صحيح أنها فرحة لا تدوم كثيرًا، لكنها فرحة على كل حال.. أما أسعار الخضروات واللحوم وباقى السلع فهى أرقام غير مستحبة قطعًا، خصوصًا فى هذه الأيام.

أمس الأول كنت فى جولة من الفرح أتمنى أن تدوم مع نوعية جديدة من الأرقام، هذه الجولة فرضتها جولة قام بها دولة رئيس وزراء مصر د. مصطفى مدبولى فى عز الصيام.. فى عز النهار.. ربما فى إشارة ذكية من الحكومة إلى أننا فيما يغرق العالم كله فى ظلام الحسابات المعقدة حول أيامه المقبلة مع التضخم وجفاف أرفف محلاته من السلع- ها نحن وفى عز النهار نقول إن لدينا مصانع.. هذه المصانع يعمل بها آلاف المواطنين، بشكل مباشر أو غير مباشر.

هذه المصانع أنشئت فى السنوات الخمس الأخيرة فى صحراء أكتوبر.. بالقرب من الأهرامات، باستثمارات بالملايين.. وها هو الآن- رئيس الوزراء - يذهب ليطمئن على سير عملها.. هذه المصانع أنشأها القطاع الخاص بالملايين.. وتنتج بالملايين أيضًا وتصدر بالملايين لتجلب ملايين الدولارات.. هل أدلكم على الأرقام المفرحة إذن؟!

مصنع تجفيف البصل الذى تفقده رئيس الوزراء.. وأنا مغرم بأى صناعة تقوم على إنتاجنا من الزراعات إلى حد الهوس.. وكم أحلم أن تبنى الحكومة أو القطاع الخاص فى مصر الآن المصانع، منها هذا المصنع الذى أقيم فى أكتوبر عام ٢٠١٩.. يعنى من تلات سنين بس.. بدأ التشغيل فى فبراير ٢٠٢٠ بطاقة إنتاجية سنوية تقدر بـ٤٥ ألف طن باستخدام أحدث أساليب التكنولوجيا.. ويسعى العاملون به إلى الوصول إلى مضاعفة هذا الرقم.. المصنع يعمل به ٣٠٠ مصرى إضافة إلى ٢٠٠٠ آخرين يعملون معهم بشكل غير مباشر.. المصنع يصدر إنتاجه إلى اليابان وروسيا والمملكة المتحدة وأمريكا وكندا.. وهو المصنع رقم ٣ فى سلسلة مصانع الشركة التى تصدر بما يقرب من ١٤ مليون دولار سنويًا.

هذه الملايين من الدولارات ليست وحدها التى تسعدنا بلا شك.. لكن فكرة أن تكون عندنا خطة للتصنيع وأن ننفذها وأن نبدأ.. وأن نشاهد «جنى» ما زرعته أيدينا.. هى الفرح ذاته. كنت لوقت طويل أسأل نفسى ولا أجد إجابة: لماذا اختفت أغنيات العمل من حياتنا؟.. لماذا لم تعد هناك أغنيات مثل تلك التى غناها ماهر العطار للقمرى اللى زقزق فوق شجر الليمون.. فيما هو يصرخ: «شيلنى شيل يا جدع.. الكتف عمره ما ينخلع».. أو شريفة فاضل وهى تغنى «ياحلاوة الإيد الشغالة».. الأغنية الحقيقية فى حياتنا، والفرح الحقيقى الذى يجعل للأرقام قيمة ومعنى هو عرق الإيد الشغالة، وهذا ما كدت أراه يقفز فرحًا بين السطور وأنا أتفحص الأرقام هذه المرة.

بناء مصنع واحد فى صحراء أكتوبر يعنى باختصار أن الطريق إلى المصنع قد تم تمهيده.. وأن الكهرباء والغاز قد تم توفيرهما.. وأن دعمًا ما قد تم تقديمه لذلك المستثمر الذى قرر البناء.. يعنى أن العشرات من أبنائنا من أصحاب الخبرات التى كانت تفكر فى الهجرة لن تذهب بعيدًا، فمكانها محفوظ. زيارة رئيس الوزراء التى تمت ظهر السبت إلى المنطقة الاستثمارية «سى بى سى» فى أكتوبر شملت أيضًا إحدى الشركات العاملة فى الصناعة الغذائية- وما أحوجنا إلى هذه الشركات الآن- يعمل بها سبعة آلاف عامل.. وحجم استثماراتها يقترب من ٤ مليارات دولار.. نعم الرقم صحيح أربعة مليارات من الدولارات.. وصادراتها وصلت إلى ٣٠٠ مليون جنيه سنويًا.. وهى شركة مساهمة تأسست عام ١٩٩٦.. وأقيمت على مساحة خمسين ألف متر، وتعمل فى مجال تصنيع وتعبئة وتغليف المواد الغذائية..

لم أذكر أسماء الشركات.. لا لسبب إلا أننى غير مهتم إلا بالفكرة.. فكرة أننا فى عز الظروف التى يمر بها العالم.. نحن نعمل.. ونُنتج ونصدر.. وهناك آلاف من المصريين يعملون فى عز الصيام.. هم أولئك الشباب الذين التفوا حول د. مصطفى مدبولى يشرحون له ما صنعت أيديهم عسانا نفرح معهم وبهم.. بمثل هذه السواعد.. حتمًا يصير للأرقام معنى.