رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مرضاة الله لا تحتاج الصخب والاستعراض والاستعلاء والوصاية

لا أدرى لماذا تزداد السلبيات التى نود التخلص منها لنرتقى إنسانيًا وثقافيًا وحضاريًا فى شهر رمضان، وتصبح وكأنها تتحدى كل مقومات التحضر والاتساق مع النفس والتواضع والأدب ومراعاة حقوق الآخرين؟، لماذا لا نصوم فى هدوء، ونصلى فى هدوء، ونمارس ما نؤمن به من طقوس دينية دون استعراض أو استعلاء أو وصاية؟

ألا تبغون من الطقوس الدينية مرضاة الله؟ أم تراكم تبغون مرضاة الناس؟ إن كنتم تبغون مرضاة الله كما تقولون، فالله لا يحتاج إلا إلى ممارسة شخصية هادئة من الإنسان ليس فيها زعيق ولا صخب ولا استعراض ولا استعلاء ولا وصاية على الآخرين.

أما إذا كنتم تبغون مرضاة الناس وأغراضًا أخرى غير مرضاة الله فهذه قصة أخرى، قصة محزنة، مؤلمة، متكررة، بكل أسف ومرارة.

فى شهر رمضان ترتفع شدة الميكروفونات، ويطول وقت الدعاء والتسبيحات والابتهالات وقراءة القرآن كله فى الميكروفون المرتفع، لا أدرى مفيش جهة فى البلد تراقب هذه السلوكيات المتناقضة مع الصلاة والصوم والطقوس الدينية وتمنع هذا الاستخدام غير الحضارى من قبل المساجد والجوامع؟

مفيش جهة فى البلد تعلّم هؤلاء شيئًا اسمه احترام قدسية حرمة البيوت والسكن وخصوصية الحق فى الهدوء والسكينة وعدم الإزعاج؟

مفيش جهة فى البلد تحمينا من هؤلاء الذين لا يعرفون حاجة اسمها «العيب» و«الخلق القويم»، و«إدراك أنهم ليسوا وحدهم فى المجتمع» و«أن المجتمع ليس عزبة خاصة لهم»؟

تناقض فج صارخ ليل نهار كل يوم على مدار السنة بين المفروض من ممارسة الطقوس الدينية فى تعليم الأدب والتهذيب واحترام البشر، وغياب بديهيات الأخلاق القويمة لمنْ يحرصون على أداء الطقوس الدينية وإطلاق مواعظ الصراط المستقيم علينا.

اللغز الذى يحيرنى هو: كيف مع انتشار واستمرار الوازع الدينى وفى كل شبر فى مصر، وخوف الناس من العقاب الإلهى المتربص الشديد لو تركوا الطريق المستقيم نجد أن الطرق غير المستقيمة المتعصبة تزداد؟

كل سنة مع بداية رمضان تتجدد الدعوة إلى تشريع أو قانون يجرم الإفطار جهرًا فى نهار رمضان، هل يتوافق هذا مع «لا إكراه فى الدين» أم أنه إرهاب من الدرجة الأولى باسم الصوم والفرض الإلهى؟ هل نحن نتقدم فى الانفتاح والتعدد الحضارى؟ أم نمشى إلى المزيد من التعصب والتطرف والتحكم فى الناس والإرهاب تحت اسم فرض «الصيام» وممارسة الطقوس الدينية؟

وما منفعة وفائدة الطقوس الدينية إذا لم تعلم الإنسان الأخلاق الرفيعة النبيلة والحساسية لاحترام حقوق الآخرين والأخريات فى كل مجال؟

وكل عام تقرر وزارة الأوقاف تنظيم فوضى مكبرات الصوت فى المساجد والجوامع فى شهر رمضان وهذا لم يحدث، ونسمع أصواتًا غاضبة مستاءة تعتبر مثل هذه القرارات، قلة إيمان وقلة إسلام وقلة تدين، وكأن الإيمان والإسلام والتدين لا تكتمل ولا تؤدى رسالتاها إلا بانتهاك خصوصية البشر فى أكثر أماكنهم حميمية «بيوتهم».

كان لا بد لمجتمعاتنا بكل طقوسها الدينية وصوتها المرتفع بالميكروفونات، أن تصبح أفضل المجتمعات أخلاقيًا.. وهذا لم يحدث.. لماذا؟ لماذا لم يؤد الصوم المتراكم فى رمضان عبر زمن طويل إلى الصوم عن مفاسد الدنيا ومتاعها الزائل وغرورها الأحمق وانتهاك حريات الآخرين؟

لست قلقة على حالنا من الناحية الاقتصادية، فكل أزمة اقتصادية معروفة السبب والحلول، ولا يخلو أى مجتمع من المعاناة الاقتصادية مهما عظم شأنه وازدهرت قدراته وموارده، بل إن بعض التعثر الاقتصادى ضرورى لاستنهاض الهمم وتحفيز الإرادة الكامنة إلى المزيد من الإنجازات.

كما أننى لست قلقة على انتشار كورونا، فالأمصال متاحة ومتوافرة لكننى قلقة على حالتنا الأخلاقية وتدنى السلوكيات الحضارية التى وصلنا إليها رغم أننا نصلى، ونصوم، ونحج، ونزكى، ونعتمر، ونقيم صلوات التراويح، ونمسك السبح، ونبسمل، ونحوقل، ونرسل ذريتنا إلى مدارس وكتاتيب تحفيظ القرآن، ولا شىء يسعدنا قدر تغطية النساء بالأقمشة وذكورية القوانين الجائرة.

ما جدوى الاقتصاد المزدهر طالما الذى ينعم به إنسان فقد نقاء الأخلاق ونزاهة الأخلاق واتساق الأخلاق؟ إنسان «صائم» عن لذات الطعام والشَراب والجنس، لكنه «يفرط» فى التهام نبل الخلق ورقى المشاعر وأدب السلوك.

إنسان «ممتنع» عن دخول أى شىء يدنس الفم، يسرع للتطعيم ضد كورونا، لكنه «مرحب» بكل الأشياء التى تدنس النفس والعقل والقلب، ما فائدته؟

أمر آخر يتناقض مع ما يقال عن فائدة شهر رمضان فى الإحساس بالفقراء وأن هناك ملايين محرومين من رفاهية الأطعمة والحلويات والمشويات والمحمرات، وهو التحريض الإعلامى اليومى المكثف من خلال الإعلانات التجارية على الاستهلاك والإنفاق وشراء الشقق والمنتجعات وتوفير التبرعات وكفالة الأيتام، وغيرها من الممارسات التى لا تتم إلا بفتح المحفظة الدسمة بالفلوس.

*****

من بستان قصائدى 

قصيدة «ماما فطيرة الدرة هتبرد»

ماما.. نانا 

ياللا اصحى يا حلوة.. الشاى خلاص جاهز

أصابعى تروح وتجىء على شَعرها الأبيض

عله يقرضنى حكمته وسِحر لونه الثلجى 

ماما.. نانا

تفتح عينيها السوداوتين مبتسمة كعادتها وهادئة

مثل إشراقة الشمس فى الشِتاء

أضمها إلى صدرى لنصبح امرأة واحدة

تبكى أسبابًا غامضة دون بكاء

أقبل وجنتيها ورأسها قائلة: النهاردة يا نانا عيد الأم

وأول أيام الربيع كل سنة وأنت أمى وطفلتى

جبتلك هدية نفسك فيها من زمان

تقول: هو إحنا عندنا عيد أم ولا عيد ربيع

هديتى خلاص خدتها من زمان لما ولدتك يا نونا

تتوقف عن الكلام تزداد عيناها اتساعًا

يشع بريقهما الطفولى ذهبت بقايا النوم

وجاءت فرحة «نوال» مهلهلة: دى ريحة فطيرة الذرة

عرفتى تعمليها يا نونا كنت نايمة بحلم بيها

وشفت أمى فى المنام بتصحينى زيك كده

عشان أقوم آكل منها ياللا يا نونا

جهزى الشاى يا حلوة واستنينى فى المطبخ

تحتضننى بسعادة كأنما أهديتها الكون كله

أشعلت عود بخور برائحة الياسمين أعدت الشاى

لا تشربه إلا فى كوبها الزجاجى المنقوش بالورود الحمراء

لا أشربه إلا فى فنجان صينى وضعت فطيرة الذرة فى المنتصف

رائحتها تملأ المكان ناديت عليها: ماما.. نانا

ياللا كله جاهز والبسى الروب الأزرق النهاردة برد أوى

انتظرتها لا تأتى ولا أسمع صوتًا لها

أحيانًا تحب أن تستمتع بالدش الساخن مدة أطول

مرة أخرى أناديها «فطيرة الذرة هتبرد يا ماما»

لا يأتينى أى رد أنتظرها وأنا شاردة

أرتشف الشاى الساخن اخترق الكافيين كيمياء مخى

وفى لحظة نبهنى أن اليوم فعلًا عيد الأم

وبداية موسم الربيع وأن اليوم حقًا

هو ٢١ مارس لكنها سنة ٢٠٢٢

الذكرى السنوية الأولى لرحيل أمى عنى

سنة بأكملها أردت شطبها من ذاكرتى

ومن حسابات العمر «ماما.. فطيرة الذرة هتبرد»

جملة يرددها الهواء تكسر الجدران

تشق بسِكين صدرى لتبقى هناك

حتى ألقى أمى تحت التراب وفى يدى

الشاى وفطيرة الذرة أسدلت ستائر المطبخ

بمفرش أبيض غطيت فطيرة الذرة

تذكرها بحنان أمها سابقة عصرها

ورائحة الطفولة بين تسع إخوة وأخوات

مع الأب الوفى المتواضع المستنير

«ماما.. نانا.. فطيرة الذرة ستبرد»

سيبقى دائمًا النداء من سنة إلى سنة

الذى لن تسمعه والدعوة التى لا تستجيب لها

قضية رغم ثبوت التهمة وتوفر الأدلة والشهود

واعترافات تفصيلية من الشهود والجناة

يحولها قضاة الزمن إلى قضية باردة

لا مبالين بغليان الشاى وقلبى وسخونة فطيرة الذرة