رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

باريس مدينة الحب والفنون وجنون الأسعار

منذ ما يقرب من خمس سنوات تقريبًا سمحت لى الظروف بأن أقضى أسبوعًا كاملًا فى باريس.. كانت هذه هى رحلتى الأولى إليها.. سنوات طويلة وأنا أعرفها من خلال شعرائها ومطربيها ولاعبى الكرة أيضًا.
ولأنه أسبوع واحد فقط.. رحت أفتش فى شوارعها.. لم أسمح لنفسى بالنوم إلا ساعات قليلة عسى أن تشبع روحى بروائح ذلك البلد الذى أنجب «بول إيلوار، وإديث بياف».. ذلك السحر الذى عرفناه فى الموضة والأزياء والعطور ومباريات الكرة.
سحرتنى شوارع باريس التى تشبه «وسط البلد» وكأننى لم أذهب بعيدًا.. فرُحت أفتش عن «الأزقة».. وما هو خفى عن «السياح» وعثرت على غايتى عبر صديق مصرى يعيش هناك.. وبسبب عمله فى مجال السياحة كان أن أرشدنى إلى كل ما أبحث عنه.
فى اليوم التالى لزيارتى.. كان أن وجدنا المدينة وقد حُوصرت بعدد ضخم من الجرارات الزراعية.. كان المشهد غريبًا بالنسبة لى.. ولما سألت عن سر تلك «الدائرة الملغزة».. عرفت أنهم الفلاحون.. جاءوا من الريف القريب من العاصمة للاحتجاج على زيادة أسعار المحروقات.. وما يسببه ذلك لهم من كلفة لا يطيقونها فى ظل منافسة أوروبية طاحنة فى أسعار الخضروات والفاكهة.
ثلاثة أيام مرت على بداية مظاهرات أهل الريف.. وذهب رئيس الوزراء إليهم لإقناعهم.. والتحاور معهم.. وانتهى الأمر بعد عناء شديد.. ووعد بتدخل حكومى لدعمهم فى مهنتهم، حتى يستطيع كل واحد منهم الاستمرار فى فلاحة أرضه والحياة بكرامة.
تذكرت ذلك المشهد وأنا «أتفرج» مرغمًا على أحدث ما صدرته لنا ساحة الحرب التى تجرى فى أوكرانيا.
مجرد فيديو قصير لحوار بين مواطن فرنسى والرئيس ماكرون.. المواطن يشرح كيف تحولت حياته إلى ما يشبه الجحيم فى غضون أيام قليلة بسبب الحرب.. يحكى للرئيس كيف أنه، وهو الموظف المحترم الذى كان يضمن له راتبه عيشة طيبة، وقد تحول فى ظرف شهور قليلة إلى مجرد مواطن فقير لا يستطيع مجاراة غول الأسعار الذى التهم كل شىء.
لم يقل لنا الفيديو: ماذا سيفعل ماكرون؟.. وهل هذا هو حال معظم مواطنى باريس ومدن فرنسا الباقية أم أنها شريحة المواطنين التى تتضرر غالبًا عند كل أزمة يتعرض لها أى بلد بسبب تقلبات أسواق المال والغذاء.. لكن نشرات الأخبار قالت لنا ما هو أصعب.
أحد المحللين فى واشنطن قال: «ستحدد مدة الحرب ما إذا كانت التطورات الأخيرة فى الأسواق ستكون صدمة مؤقتة أو شيئًا أكثر ديمومة»، ورجح أن بولندا وتركيا أكثر عُرضة لتأثيرات الحرب، وأشار إلى أنه من المتوقع زيادة التضخم فى البلدان الناشئة بنسبة كبيرة، لا سيما فى أوروبا الوسطى.
بيان سابق لصندوق النقد الدولى أكد وفق «سكاى نيوز عربية» أنه سيكون لصدمة الأسعار تأثير على العالم بأسره، خاصة على الأسر الفقيرة التى يشكل الغذاء والوقود نسبة أكبر من إنفاقها.
ألمانيا.. لم تجد عضوة بما يسمى «مجلس حكماء الاقتصاد» سوى أن تدعو المواطنين لخفض استهلاكهم.. وشرحت السيدة التى تدعى «مونيكا شنيتشر» المواطنين إلى الاستخدام المشترك للسيارات والقيادة بسرعة أبطأ.. واستخدام وسائل النقل العام.. بل وزادت بأن نصحت الحكومة بالتفكير فى وضع «حد عام للسرعة على الطرق السريعة».
فى أمريكا.. الوضع لا يختلف كثيرًا.. المراقبون رصدوا حسب «وكالة بلومبرج» الزيادة الكبرى فى أسعار البنزين منذ ٤٠ سنة كاملة.. وأن أسعار الغذاء تشهد تقلبات غير محدودة.
عربيًا.. زاد سعر زجاجة زيت «عباد الشمس» فى بيروت بنحو عشرة أضاف ما كان عليه منذ ثلاث سنوات فقط.. وقالت رشا بيضون، رئيس منظمة ميك إديفرنس الخيرية - توزع الوجبات على الفقراء فى بيروت - «فى رمضان.. ستصوم بعض الأسر بلا إفطار.. ليس لديها ما تأكله.. لا بعد المغرب ولا قبله».
هكذا الجنون الذى أصاب أسعار السلع فى العالم كله.. لم يكن بعيدًا عن المائدة الرمضانية فى مصر.. فكان أن حولنا ما يجرى فى سوق تأثرت مثل غيرها من أسواق العالم إلى مجموعة من النكات كما هى الحال دائمًا.. نحن أسياد فكرة السخرية من أى شىء وفى أى وقت.. ولا يخلو الأمر من جدية أحيانًا تمر بصعوبة وسط كم لا محدود من الضجر والسخرية الحادة التى طالت كل شىء من أول «ورق العنب» حتى «الطماطم» التى لم تعد المجنونة الوحيدة فى تلك السوق.
أسعار الخضروات بالتحديد.. صارت لغزًا خاصة أن الفلاحين فى مصر يشكون من صعوبات متتالية، والأغرب أنهم يعلنون عدم استفادتهم بأى شكل من تلك الزيادات الرهيبة التى اجتاحت أسواق «الخضار المصرى».
وفشلت كل تحليلات أهل «المصاطب» التى ربطت بين تغيرات وتقلبات المناخ فى الفترة الأخيرة وتلك الزيادات.. وهناك شريحة كبيرة من المواطنين فى مصر ترفض تمامًا ربط أى زيادات فى الأسعار بما يحدث من حولنا فى العالم، بسبب الحرب أو غيرها.
ماكرون لم يقدم للمواطن الذى التقاه فى الفيديو الأكثر تداولًا منذ يومين حلًا.. ولم يعده بحل أيضًا.. لكنه «تمنى» أن ينتهى الأمر سريعًا.. فهل يملك أى مسئول أو خبير فى السياسة أو الاقتصاد أى إجابة للسؤال الذى بات أكثر إلحاحًا على ألسنة الصائمين والمفطرين معًا: متى ستنتهى هذه الحرب؟!
الإجابة الوحيدة المتاحة.. عندما تبدأ المفاوضات.. فإذا ما سأل أحدهم: ومتى ستبدأ هذه المفاوضات؟ أو «لم تبدأ تلك المفاوضات بعد؟؟».. لن تجد إجابة شافية أو ما يقودك إلى مؤشرات مريحة وهذا هو العبث نفسه الذى يزيد من حيرة الجميع.. فى باريس أو القاهرة.. الناس والأسواق والسلع.. لعنة الله على الحرب.. وعلى الذين يظنون أنهم سيستفيدون من ورائها.