رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سر الرجل الوحيد الذى هزم قلبى

٢١ مارس.. بدء الربيع

٢١ مارس.. بدء انقلاب الأرض على ركود الشتاء، يوم امتلاء لوحة الحياة بالألوان والزهور وبهجة الاستمتاع بالدفء.

٢١ مارس.. اليوم الذى نقول فيه للشتاء: وداعًا حتى الذين يعشقون الشتاء، يقولون له: وداعًا دون ندم، فالتغير هو قانون الحياة شئنا، أم أبينا.

٢١ مارس.. عيد الأم حيث تُكرم الأمهات والزيارات العائلية والأغنيات وكلمات الامتنان وقبلات الحب والتقدير.

٢١ مارس.. اليوم العالمى للشعر

٢١ مارس ٢٠٢١.. يوم رحيل أمى «نوال»

٢١ مارس ١٩٢٣.. يوم ميلاد «نزار» الشاعر الذى عشقته فوق طاقتى على حب الشعراء، رجل جاء من سوريا التى أهدتنى أيضًا رفقاء أشجانى وأفراحى، «فريد» و«أسمهان».

٢١ مارس ٢٠٢٢.. يكون قد فات على ميلاد «نزار»، ٩٩ عامًا الشاعر والرجل والثائر الذى أنجبته أمه «فايزة» فقط ليكون عزائى الوحيد فى سيرته وقصائده وقوتى الحقيقية ويقينى الملتصق بجلدى واليد الحانية التى تمسح دموعى، هو نبض الكتابة التى تمنعنى من الجنون أو الانتحار وتدعونى للمواصلة رغم العبث واللاجدوى.

نزار.. «٢١ مارس ١٩٢٣ - ٣٠ أبريل ١٩٩٨».. هل تسامحنى يا «نزار»؟

كان من المفروض أن أكتب هذه الكلمات منذ عشرة أيام، يوم ميلادك بالضبط ٢١ مارس، لكن تشاء الأقدار أن يكون ميلادك يا «نزار»، هو السنوية الأولى لرحيل أمى.

وهذه مصادفة ستعذبنى إلى الأبد، ستمزقنى إلى الأبد مصادفة لا أدرى حكمتها، ولماذا ستجتمع دائمًا الذكرى السعيدة بالذكرى الحزينة فى تاريخ واحد؟، بعض الناس يؤمنون بألا شىء يحدث صدفة ليس لها سبب، وإنما هى عقولنا التى تعجز عن إدراك الأسباب لكننى أعترف لك يا «نزار» بأننى لست من هؤلاء الناس، فما يعجز عقلى عن فهم أسبابه المتناغمة مع المنطق السوى وتجارب الحياة عبر الزمن أسقطه من قناعاتى ولست مستعدة لأن أؤمن به وأعيش فى أوهامه وخيالاته.

على رأى المثل يا «نزار» لقد «اتلهيت» يوم ميلادك ٢١ مارس فى ذكرى رحيل أمى الأولى، لا يمكن أن أنساك فقط، إنه «الشديد القوى» الذى خيم على انشغالى خدرنى لبعض الوقت وعصر طاقاتى، هل تغفر لعاشقة مثلى هذا التأخير غير المقصود، لمدة عشرة أيام؟.

حين أقول نزار لا أقصد الشاعر الذى تصل موهبته إلى ما بعد السماء، ولست أقصد حساسيته المرهفة لجميع تفاصيل الحياة الصغيرة العابرة التى جعلها فى أشعاره بحجم الكون، ولست أقصد التراث الشعرى الهائل الذى يستحيل على شاعر عادى أن يكتبه.

حين أقول نزار، أقصد الطاقة الشعرية اللامتناهية لتحويل كل ما فى الحياة إلى شعر، حينما نستمع إلى أشعار شعراء آخرين، نشعر أن شِعرهم منفصل عن الحياة اليومية المعاشة، الحياة التى هى من دم ولحم وشعور وأعصاب.

قد نستمع إلى شاعر يطوف بنا فى فضاء الكلمات التى تتحدث عن الثورة والاحتجاج والغضب والتذمر، لكنها كلمات سابحة فى الهواء ليس لها موقف حياتى مُعاش على الأرض وليست نابعة من معاناة امرأة حقيقية أو معاناة رجل حقيقى أو معاناة شعب حقيقى فى لحظة تاريخية محددة، كلمات حماسية تلعب على أبعاد ميتافيزيقية ودلالات كونية مجردة من إحباط الإنسان العربى وتعاسة المرأة العربية وازدواجية وتناقض المجتمعات العربية.

ولذلك يأتينا شعور بأنه على الرغم من حماس الشاعر وانفعاله والكلمات المحفزة التى يطلقها فى وجوهنا هناك «انفصال» واضح بين الشاعر وشعره، الكلمات سليمة لا غبار عليها والزخارف موضوعة فى مكانها وصوت الشاعر ممتلئ بالقوة والحماس، ومع ذلك نشعر بشىء ما لا يريحنا تمامًا لا يطربنا تمامًا لا يمتعنا تمامًا.

والكثيرون ربما لا يعرفون السبب لكنهم يصفقون للشاعر المتحمس قوى العبارة ذى القصيدة العصماء، المعمقة، المرفهة، وكهنة النقد يضعونه سلطان الشِعر العربى والدولة تكرمه وتحتفى باسمه ليل نهار، وتمنحه صفحات لكتابة المقالات فى الصحافة ويظهر علينا فى القنوات الإعلامية بقصائده المقعرة المغتربة.

حين أقول نزار فأنا أقصد سقوط الحاجز بين الشاعر وقصيدته، كلمات نزار قبل أن تنقشها دفاتره الزرقاء «كان يحب الكتابة على الدفاتر الزرقاء»، نقشها جسده وأعصابه وضجره واغترابه وعذاباته اللانهائية.

كل قصيدة كتبها نزار هى امتداد طبيعى لترفه وأحزانه وأفراحه وتمرده وثورته على المجتمع العربى، لا توجد قصيدة كتبها نزار بـسِن القلم، ولكن بـسِن الألم المخترق كل خلية من خلاياه، كل تجربة عاشها مهما كانت صغيرة «لا يعترف نزار بأن هناك تجارب صغيرة وأخرى كبيرة» هى تجربة العالم كله.

قال نزار: «ليست عندى تجربة صغيرة وتجربة كبيرة، كل تجاربى الصغيرة هى فى الوقت نفسه، ذاته تجربة العالم كله، فأنا حين أتحدث عن حبى، وإنما أتحدث عن حب العالم كله، وحين أتحدث عن حزنى، إنما أتحدث عن حزن الدنيا بأجمعها. نخطئ حين نظن أن تجربة الشاعر الجزئية تجىء من برزخ آخر، فالشاعر جزء من أرض ومجتمع وتاريخ وموروثات ثقافية ونفسية وعضوية، وكل كلمة يضعها الشاعر على الورقة تحمل فى ثناياها الإنسانية كلها والتجربة الذاتية التى نظنها صغيرة، تأخذ فى بعض الأحيان حجم الكون.

لذلك فإن خصوصيات الشاعر بمجرد اصطدامها بالورق تتعدى ذاتها لتصبح فضيحة، فضيحة يقرؤها العالم، إن الأدب الذاتى خرافة وافتراض، فالذات ليس إلكترونًا منفصلًا ولكنها جزء من حركة الكون، حتى فى حالات عشقى الخاص أشعر أننى أكثر كونية وأشعر أن الواحدة التى أحبها هى كل النساء».

إن هذا الالتصاق أو الالتحام بين نزار وشِعره، ليس فقط نتيجة موهبته الشعرية النادرة، ولكنها أيضًا دليل الصدق والاتساق مع النفس وعدم الاهتمام بالمديح أو الذم، لا يعنيه إرضاء، فهو صادق إلى حد الوجع متسق مع نفسه إلى حد الانبهار فى استغناء إلى حد الزاهد المتصوف.

يقول نزار: «لغتى الشعرية هى المفتاح الحقيقى لشعرى وأهم منجزاتى.. أعلنت عصيانى على القاموس العتيق ومفرداته وأحكامه البوليسية، اللغة الأكاديمية زجاجة صمغ، أى أنها مادة شديدة الالتصاق، والذين استسلموا لها من الشعراء غرقوا فى الصمغ أو صاروا صمغًا».

«إننى حين أكتب لا أقبل أى سلطة مهما كانت أن تجلس فوق أصابعى، إننى على الورق أمتلك حرية إله».. واحدة من مقولات نزار المجيدة.

يحتفى نزار بالمرأة احتفاءً خاصًا، وكان يعتقد أن كل شِعر لا يغترف من الأنوثة شعر ناقص، يتيم، غير طبيعى.

كتب نزار: 

كل كتابة هى أنثى.. ولو كتبها رجل

وكل ثقافة لا يعتد بها.. إذا لم تتشكل فى رحم امرأة

لذلك سميت الوردة وردة.. واللوحة لوحة

والمنحوتة منحوتة.. والقصيدة قصيدة

والرواية رواية.. والسيمفونية سيمفونية

وفى حين كان الرجل يعلن الحرب

كانت المرأة تعلن الحب.. وتصنع القصائد والأطفال

لا يؤمن نزار بالتجزئة على مستوى الِشعر أو على مستوى الإنسان، الإنسان الحقيقى الأصيل غير قابل للتجزئة، وحده العاشق العظيم للمرأة هو المؤهل لأن يكون وطنيًا عظيمًا وثائرًا عظيمًا.

إن احتلال الوطن بالنسبة لنزار ليس معناه فقط وجود ما نسميه بالعدو الخارجى الذى يستعمر بجيوشه ودباباته وفلوسه أو حتى بثقافته، إن الاحتلال أيضًا «وهو الأكثر خطورة» أن تحتلنا قيم وتقاليد بالية تعوق حركة الحياة إلى الأجمل والأعدل، وأن تستعمرنا مشاعر العنصرية والتعصب تجاه أوطان أخرى.

منذ بداية قصائده السياسية التى افتتحها نزار بقصيدته «هوامش على دفتر النكسة» وهو على حد تعبيره «فى أسنان التنين»، وكان كعادته مع كل هجوم وإدانة يشعر بالزهو وأنه أصاب الداء فى مقتل.

إن علاقة نزار الحميمة المستمرة مع المرأة حررته من التجزئة الذكورية لمعنى القهر الوطنى والتحرر الوطنى، تعلم نزار من النساء أن الحب قضية سياسية من الدرجة الأولى وأنه فى ارتباط عضوى بمسألة التحرر الوطنى، لقد علمته علاقاته بالنساء والدخول إلى همومهن وأسرارهن ومعاناتهن.

أطلق «نزار» جملته الثورية الشهيرة الغريبة التى تفضح مفاهيم الوطنية العتيقة العرجاء ذات بُعد واحد مزيف، وتكشف الذكورية الأسمنتية المغروسة والمزروعة فى فهمنا لتحرير ونهضة الأوطان.

قال نزار «مَنْ يرضَ باستكانة امرأة يرضَ باستكانة وطن»، يا لها من جملة يستحق عليها باقات ورود بعدد نساء كوكب الأرض. هل قالها واحد من الرجال الذين يطلق عليهم المفكرون، التنويريون، الثائرون، العظماء؟.

يكتب نزار

أحاول رسم مدينة حب.. تكون محررة من جميع العقد

فلا يذبحون الأنوثة.. ولا يقمعون الجسد

أحاول رسم بلاد لها برلمان من الياسمين

وشعب رقيق من الياسمين تنام حمائمها فوق رأسى

وتبكى مآذنها فوق عيونى أحاول رسم بلاد تكون صديقة شعرى

ولا تتدخل بينى وبين ظنونى ولا يتحول فيها العساكر فوق جبينى

أحاول رسم بلاد تكافئ إن كتبت قصيدة شعر وتصفح عنى إذا فاض نهر جنونى

على مدى نصف قرن من الزمان، هاجم نزار الشيزوفرينيا الذكورية، وأن يعيش الرجل العربى حياة واحدة، لا تعرف مبدأ «التقية».

كتب نزار: «الفرق بينى وبين العشاق أنهم يحبون فى العتمة وضمن جدران غرف النوم المغلقة، أما أنا فلسوء حظى أننى رسمت عشقى على الورق وألصقته على كل الجدران، هذه هى مأساة الفنان أنه لا يستطيع أن يتصرف فى الحياة بشكل وعلى الورق بشكل آخر، إنه ملزم كشاعر أن ينقل سريره إلى الشارع، ويضع عواطفه تحت تصرف جميع المواطنين وفى خدمتهم كالتماثيل والأرصفة، والحدائق العامة».

ولأننى لا أستطيع ممارسة العشق فى العتمة، ولا أستطيع أن أخبى حبيبتى فى سرداب من الحجر، أصبحت قصائدى وثائق اتهام موقفة بإمضائى، إن شاعر الحب فى بلادنا يقاتل فوق أرض وعرة، وفى مناخ عدائى ردىء.

وبالتالى لا يفهم نزار الكتابة إلا كونها مواجهة حياتية بالدم، بالعقل والجسد والعاطفة للألغام المخبأة تحت الجلد، إنها المرادف لهدم الأشياء والقوالب والبروتوكولات والأعراف وأحداث الصدمة.

أحاول أن أكتب عن «نزار» فى ذكرى الميلاد «٢١ مارس ١٩٢٣ - ٣٠ أبريل ١٩٩٨».

لكن كيف؟ هل تستطيع الأبجدية أن تتهجأ حروفها؟ هل يمكن للكتابة أن تكتب نفسها؟

نزار ليس رجلًا حاول بالكتابة أن يصنع وجوده النادر المتفرد، بل كان هو الكتابة فى ذروة تأنقها وعصيانها وافتضاح أسرارها، كان الكلمة السلسة العميقة مثل جذور الشجر، الموحية بالتمرد، المشعة بالحكمة، النازفة عشقًا، النابضة بالغضب الثائر، وأشجان الغناء.

هو الكلمة المنطلقة ضد احتلال الوطن وضد استعمار النساء، نزار ليس شاعرًا أو واحدًا من الشعراء، لكنه الِشعر نفسه حينما يبقى متجددًا ومتوهجًا وساحرًا، والدليل على ذلك وهذه ليست مصادفة أن يكون مولد نزار ٢١ مارس هو اليوم العالمى للشِعر.

من المحال أن تهل علينا ذكرى ميلاد نزار، فى مرحلة حرجة من تاريخنا الساعى للتحرر والنهضة دون أن نتذكر قصائده الثورية عن الحرية والثورة ضد الحكام والتمرد على شيوخ القبائل الذكورية، صعب جدًا وليس من الوفاء، أن ننسى «نزار» اليوم، وهو الذى تمنى قيام الشعب العربى من نومه الطويل وانعتاق النساء من الثقافة الصحراوية الذكورية، ألم يبشر بثقافة البحر وحضارة الماء؟

وكان «المنفى» لنزار والإقامة الجبرية خارج وطنه ومصادرة قصائده «المغضوب عليها» وإدانته بأبشع الاتهامات يزيد من صلابته، المزيد من الاتهام كان يجدد السفر إلى فنادق الغربة فترتفع قامته الشعرية.

كان نزار يؤمن بأن الإنسان الحقيقى الأصيل غير قابل للتجزئة، فالعاشق العظيم وحده هو المؤهل لأن يكون وطنيًا عظيمًا وثائرًا عظيمًا، إن الوطنية والعشق والثورة عند نزار هى موقف من الحياة بكل تفاصيلها اللانهائية المرتبطة ببعضها البعض، لكن الغالبية يعجزون عن رؤية هذا الارتباط، بمعنى أن من يؤلمه عصفور مسجون فى قفص يؤلمه بالدرجة نفسها امرأة تعامل كالجوارى، يؤلمه وطن أسير الاحتلال كل أشكال ودرجات الاحتلال خارجيًا وداخليًا تخدم بعضها البعض.

كتب نزار: صورة الوطن عندى تتألف كالبناء السيمفونى من ملايين الأشياء ابتداءً من حبة المطر إلى مكاتيب الحب، إلى رائحة الكتب، إلى طيارات الورق، إلى حوار الصراصير الليلية إلى المشط المسافر فى شَعر حبيبتى.

وكان لا بد أن يتعرض نزار إلى مزايدات باسم الوطن وباسم الفضيلة وباسم الدين، من الذين يعانون قصر النظر الوطنى وكهنة الوطنية وفقهاء تحرير الوطن.

تساءل محتكرو «التحرر الوطنى»: كيف للشاعر الذى لا هم له إلا امتداح عيون النساء أن يهجو الخزى العربى؟ ماله ومال السياسة والوطن والثورة وهو الشاعر الذى تفوح من قصائده رائحة النبيذ واشتهاء النهود ويطربه رنين الخواتم والأساور؟

كتب «نزار»:

لا أنتِ من صنف العبيد ولا أنا أهتم فى بيع العبيد

إنى أحبك جدولًا وحمامة ونبوءة تأتى من الزمن البعيد

وأنا أحبك فى احتجاج الغاضبين وفرحة الأحرار فى كسر الحديد

وكتب أيضًا

لا تقلقى علىّ يا صديقتى فـ كل ما اقترفته

أنى منعت البدو أن يعتبروا النساء كالوليمة

وكل ما ارتكبته أنى رفضت القمع

والإيدز السياسى والفكر المباحثى والأنظمة الدميمة

وكتب: 

تتظاهر حين أحبك كل المدن العربية

تتظاهر ضد عصور القهر

وضد عصور الثأر وضد الأنظمة القبلية

وأنا أتظاهر حين أحبك ضد القبح

وضد ملوك الملح وضد مؤسسة الصحراء

ولسوف أظل أحبك حتى يأتى زمن الماء

 

وتساءل: 

ما هو هذا الوطن؟ الذى يخاف أن يسمع صوت امرأة فى التليفون

حتى لا ينقض وضوءه.. ما هذا الوطن؟

الذى ألغى مادة الحب من مناهجه الدراسية

وألغى فن الشعر وعيون النساء.. ما هو هذا الوطن؟

الذى يتكلم فى النهار كقديس ويدوخ فى الليل على سُرة امرأة

ويكتب عن «فاطمة» قائلًا:

ترفض فاطمة جميع النصوص المشكوك بصحتها

وتبتدئ من أول السطر تمزق جميع المخطوطات التى ألفها الذكور

وتبتدئ من أبجدية أنوثتها تقفز من قطار الجاهلية

تكسر ساعتها الرملية وتتكلم معى لغة البحر

من مقولات نزار

أريد أن أحب حتى ألغى الشرطة والحدود والإعلام واللغات والألوان والأجناس، أريد أن أستلم السلطة يا حبيبتى ولو ليوم واحد لأقيم جمهورية الإحساس، إذا صحوت يومًا ولم أجد منْ شتم قصيدتى أدركت فورًا أنها قصيدة رديئة.

أدرك نزار أن ثقافة النفط كارثة ذكورية وفخ حضارى ورجوع إلى الغزوات الجاهلية.

كتب نزار:

وتزوجت أخيرًا بئر نفط

وتصالحت مع الحظ أخيرًا كانت الصفقة يا سيدتى رابحة

ومن الصندوق أخرجت أميرًا لم يحركنى

حين شاهدتك فى كل الصور تتثنين كالطاووس شمالًا ويمينًا

وتذوبين حياء وخفرًا وتشدين على كف النبى المنتظر

كانت أحلام نزار أكبر من اتساع السماء وأرحب من ذكريات الياسمين فى بيته الدمشقى وأكثر عمقًا وزرقة من عينيه وجميع «بحور الِشعر».

قد نختصر أحلامه حين كتب:

أحاول رسم بلاد تعلمنى أن أكون على مستوى العشق

أحاول رسم بلاد لها برلمان من الياسمين

وشعب رقيق من الياسمين محررة من جميع العقد

أحاول رسم بلاد تكون صديقة شِعرى لا تتدخل بينى وبين ظنونى

ولا يتجول فيها العساكر فوق جبنى

أحاول رسم مدينة حب لا يذبحون فيها الأنوثة

عاش نزار الحياة كأنها قصيدة صنعتها فصيلة دمه الثائرة وموهبته النادرة وعشقه للحرية وتمرده ضد جميع أنواع القيود.

عاش نزار رغم المنفى والإدانة والمصادرة «التى كان يفتخر بها ويعتبرها دليل جودة القصيدة»، الحياة وفق مزاجه المتقلب كالبحر عاشها عفويًا متوهجًا لا يطيع أى قانون أو عُرف أو موروث أو سُلطة إلا سُلطة الشِعر.

عاش سعيدًا لأن القصيدة اختارته لتكون قدره، لكنه مثل كل المبدعات والمبدعين العظماء كان لا بد أن يأخذ نصيبه من الحزن والألم والاغتراب.. قدر ندرة موهبته.

لذلك كتب نزار:

فأنا إنسان مفقود.. لا أعرف فى الأرض مكانى

ضيعنى دربى.. ضيعنى اسمى.. ضيعنى عنوانى

تاريخى؟ مالى تاريخ إنى نسيان النسيان

إنى مرساة لا ترسو، جرح بـ ملامح إنسان

لا ينسى نزار كنوع من الزهو والامتنان لها تعليق جدته حين كان طفلًا يكسر لعبته: «دعوه يحطم، فمن رماد الأشياء تخرج النباتات».

صدقت الجدة الدمشقية كما تصدق جميع الجدات والأمهات بحسهن الفطرى النابع من خير الأرض، حبهن غير المشروط وحكمتهن الممتدة عبر الزمان.