رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دمعة على باب الحسين.. وردة على قبر الحسينى

 

لا أعرف كيف اجتمع الاثنان فى جملة واحدة.. فى لحظة واحدة.. ونفَس واحد.. دمعة تتراوح بين الرمشين فرِحةً بعودة النور والكهارب إلى براح الحسين والناس يتوافدون عطشى إلى مقامه الكريم.. ودمعة هى ذاتها أو تشبهها تدعو، وهى تترقرق على الخد، بالمغفرة والرحمة لروح الحسينى أبوضيف، شهيد الصحافة والحرية.. فيما التليفزيون المصرى يعرض المقدمة للجزء الجديد من مسلسل الاختيار.. سنوات لم تمُت.. ما زالت خضراء حية جراحها لم تندمل فى الروح بعد.. لكنها تبدو وكأنها مئات السنين وقد فرّت.. فجأة تعود وكأنها ثوانٍ قصيرة مضت.

هو المشهد ذاته والآلاف تنشد «يسقط يسقط حكم المرشد».. وبجوارى الراحل العزيز ياسر رزق، وقد اختنق تمامًا من البكاء فيما صوته المتحشرج يقاوم.. وخطواته السريعة بجوارى ترفض أن تتوقف فى شارع عبدالخالق ثروت الذى تحوّل إلى كتلة لهب.. لم أكن أشعر بقدمىّ.. فقط أسير وكأننى مغيب.. لم يكن الحسينى أبوضيف بالنسبة لى رفيقًا مقربًا.. كان مجرد شاب من أبناء بلدتى الذين أُحبهم وأفرح بحماسهم وحدّتهم فى مواجهة هؤلاء الذين كفّروا كل شىء.. هؤلاء الذين تغابوا ولم يفهموا سر هذه البلاد.. مصر عصية على هؤلاء الذين كذبوا على الله.. من أرادوا أَسرها فى لحظة فى حدود جماعة لا ترى أبعد من قدمها.. لم تقرأ فى يوم من الأيام تاريخ هذه البلاد البراح التى احتوت الغرباء والأهل معًا.. لم ترفض يومًا أن تحنو على أى شخص دق على بابها.. لم يسمعوا يومًا لحنًا لبليغ حمدى وهو يتبتل فى محبتها.. لم يفهموا سر «روح الحسين» التى تعيش فى معيتها.. لم يفهموا سر أم العواجز.. ولا «العدرا».. لم يفهموا سر «موسى كليم الله» وطور سيناء.. لم يأكلوا من تينها وزيتونها.. لم يستريحوا فى ظل تلك النخلة التى كان يتسلقها الحسينى أبوضيف وهو طفل، يقطف ثمراتها وينظر إلى «البلاد البعيدة»، ويحلم بأن يكون أحد نجومها. 

جاء إلى القاهرة مثل رفقائه يحلم فقط بأن يكون «صحفيًا».. لم يذنب يوم أن حلم.. ولأنه أسهم مع آخرين فى كشف سرهم «المفضوح أصلًا».. ذبحوه.. قتلوه برصاصة أرادوا لها أن تكون طائشة أو هكذا تصوروا.

سبع ساعات، ويزيد، ونحن فى الطريق إلى سوهاج خلف نعش الحسينى أبوضيف.. مضت وكأنها الدهر.. لم أكن أفكر فيها سوى فى هذه السنوات الغريبة التى جاءت بنا إلى هذه المدينة.. لم أكن أتصور لحظة أنها مدينة للموت ووداع المحبين.. كنت على يقين أن ما نعيشه فى تلك الأيام مجرد سطر عارض وعابر فى عمر التاريخ وعمر مصر التى نعرفها.

كان هناك العشرات من زملائنا من صحف مختلفة.. ونحن فى المقابر هتف بعض هؤلاء «يسقط حكم المرشد».. ولأن الجنازة كانت تضم مئات من أهلنا الذين نعرفهم ويعرفون حرمة الموت والشهادة، ويعرفون أيضًا «معنى ولغة الثأر».. خشينا أن يحدث ما لا يحمد عقباه.. فهناك أيضًا كانت الجماعة الإرهابية قد زرعت الآلاف.. ممن كانوا يظنون أنها «الخلافة» وأنهم «أهل الله».. ولم أهدأ وأطمئن إلا فى طريق عودتى للقاهرة مجددًا مع الزميلين عبدالفتاح على ومحمد الباز. 

كانت جملة ياسر رزق حاضرة كلما حلت ذكرى الحسينى أبوضيف.. «والله ماهيكملوا.. وهتاخدوا تاركم».. كان يعاملنى كرجل صعيدى يعرفه ويعرف أن لنا ثأرًا عند هذه «الجماعة الطارئة» ومثلما هى عاداتنا.. لم أبك.. الآن فقط وأنا أشاهد الحلقة الأولى من الجزء الثالث من مسلسل الاختيار أضبطنى أبكى.. مثلما ضبطت بعض جيرانى يبكون فرحًا لأنهم ذاهبون إلى «الحسين» بعد عامين من الحرمان بسبب وباء «كورونا».

ما نشاهده على الشاشة.. ليس مجرد «صور».. ليس مجرد «تمثيل» وأداء راقٍ ومدهش لصبرى فواز والسقا وكريم وياسر جلال.

ومن خلفهم هانى سرحان وبيتر وخالد الكمار ومئات من شباب مهنة الدراما.. لكنها قطعًا وثيقة مهمة تحتاجها الأجيال الجديدة.. ونحتاجها نحن وإن كنا عشنا تفاصيلها.. نحتاجها حتى لا يتم التشويش على ذاكرتنا.. حتى لا ننسى.

كنت أتخيل أن ما يجرى فى العالم من حولنا.. الحرب والأسعار وهزات الاقتصاد المؤلمة.. تفاصيل الحياة اليومية.. التى تجعلنا نلهث خلف تفاصيلها.. كنت أتخيل أن ذلك كله سيصبح ساترًا يحول بين تفاعلنا وهذه الدراما المعروفة سلفًا وهو تحدٍ مربك ومزعج.. لكن ذلك الدخول الحاد والسلس فى آن واحد لمجموعة الاختيار أنسانا كل شىء وأقعدنا فى أماكننا نعيش مجددًا ما عشناه «مرغمين» فى لحظة تمنينا ألا تطول..

سلام الله على الشهداء. سلام الله على روح الحسينى أبوضيف وكل من ذهبوا فداءً لنا ولها.. وللأحبة أجمعين.