رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رمضان جانا

 

أن يأتى رمضان فذلك يعنى أن ينبسط الطريق إلى الله، وأن تتعلق بأهداب الوقت كى تلحق ما فاتك، ففى ظل تسارع الحياة والصخب اليومى الاستهلاكى، تنزوى الروح ويتضاءل وعى الإنسان بذاته وبالكون من حوله، وتصبح الحياة لهاثًا وتنفيذًا لمجموعة قواعد وتعليمات آلية، الغرض منها بقاء الإنسان على قيد الحياة بيولوجيًا، دون تأمل أو تدبر لمعنى الوجود الإنسانى. 

فالعلاقة بين الله والإنسان لا تنقطع، لكن تأتى أوقات يتجلى فيها شعور الإنسان بهذه العلاقة ويتعاظم وعيه بها، ويتلمس الإنسان هذه الأوقات، بتحرير عقله من مشاغله اليومية والاستهلاكية، وشحذ تركيزه من أجل أن تقويه بصيرته، والارتقاء ببشريته. 

ويرى عالم النفس النمساوى «كارل يونغ» بعد تجارب عديدة على نفسه ومرضاه، أن الحياة لها هدف روحى يتجاوز الأهداف المادية، وأن مهمتنا الرئيسية هى اكتشاف إمكاناتنا الفطرية العميقة وتحقيقها، كما تمتلك اليرقة الإمكانية لتصبح فراشة. 

استنادًا إلى دراسته للمسيحية، أدرك يونغ أن رحلة التحول هذه هى فى الصميم الصوفى لجميع الأديان، إنها رحلة للقاء الذات، وفى نفس الوقت للقاء الإله، فالتجربة الروحية ضرورية لراحة الإنسان النفسية والعقلية، حيث إنها تساعد فى تخفيف آثار الإجهاد على الصحة العقلية.

وقد وجد العلماء ترابطًا إيجابيًا بين الروحانية والصحة الذهنية لدى كل من الأشخاص الأصحاء، وأولئك الذين يعانون من مجموعة من الأمراض الجسدية والاضطرابات النفسية، وأن الأشخاص الروحانيين يميلون للتفاؤل والدعم الاجتماعى، ويشعرون بمعنى باطنى أعمق للحياة، وبالقوة والسلام الداخلى. وفى أوقات التجربة الروحية يسعى الإنسان لتعظيم الجوانب الفكرية من حياته فى مقابل الجوانب المادية والحسية بهدف «استعادة الهيئة الأصلية للإنسان»، لكى يكون على الصورة المثالية «صورة الإله»، وذلك عن طريق السمو بالصفات البشرية مثل: تنزيه النفس، والزهد، والاعتراف بارتباط الذات بكل ما حولها. 

هناك طرق مختلفة لفهم التجربة الروحية بتنوع الثقافات والأفراد. ففى الهندوسية مثلًا يرون أن عيش حياة فعالة وخلاقة وعملية، مليئة بالصدق، والإخلاص، والنقاوة، والتحكم بالذات، أسمى من خوض حياة تأملية بحتة. ويكمن الهدف من التجربة الروحية فى الحصول على التوازن الحاضر بين مزدوجات عدة، كالتفرقة والاندماج، والذات والآخر، والنشاط والخمود، والوصل والفصل، على مستوى الحياة اليومية.

وعند المتصوفة تهدف التجربة الروحية إلى إصلاح القلب وتوجيهه نحو الله بعيدًا عن كل شىء سواه، وهو علم يتعرف المرء من خلاله على كيفية الوصول إلى الوجود الإلهى، وتنقية الذات الباطنية، وتجميلها بمختلف الصفات الحميدة.

والمتصوفون يمارسون تعاليم الإحسان، كما وضحها النبى، صلى الله عليه وسلم، بعبادة وإطاعة الله كأنما يراه المرء، «فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، وللممارسات الروحانية أشكال عديدة منها: 

- الممارسات الجسدية، خصوصًا الحرمان والانتقاص، فيهدف الحرمان لتنقية الجسد، بينما يتعلق الانتقاص بصد النزعات التى يوجهها الغرور، ومن الأمثلة على ذلك: الصيام والزهد.

- الممارسات النفسية، مثل التأمل.

- الممارسات الاجتماعية، مثل ممارسة الطاعة، التكافل، التعاون وإعادة تشكيل النزعات الموجهة بالأنانية والغرور إلى أخرى غيرية.

وقد تتضمن الممارسات الروحانية التأمل، وتركيز كامل الذهن، والصلاة، والتفكر بالنصوص المقدسة، والتحسن الأخلاقى، والانعزال أو الاعتكاف.

كما يتواجد ضمن الروحانية «تأكيد شائع على قيمة التفكير الممعن والتسامح، واحترام فطنة المجتمعات الدينية الأخرى، فكل الممارسات الروحية تهدف للتنقية من الأنانية، وتوجيه الإمكانات للحقيقة الإلهية.

فشهر رمضان قد يكون بوابتك لتجربة روحية تستفيد فيه من تعظيم شعائر الله، وتبحث فى داخلك عن ذاتك وتتقرب إليها، وتصغى لصوتك الداخلى، بعيدًا عن الزعيق الصاخب للحياة فى الخارج. 

وللحديث بقية..