رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قراءة فى ثقافة النفى والتهميش والمصادرة

 

صدر حديثًا كتاب «المرأة فى العقل العربى.. قراءة فى ثقافة النفى والتهميش والمصادرة» للشاعرين: عمرو الشيخ وأشرف البولاقى، والكتاب ليس ديوانًا مشتركًا للشعر، لكنه مجموعة من الرسائل المتبادلة «٥٠ رسالة» بين الشاعرين، بدأ نشرها على الصفحة الخاصة بكل منهما على «فيسبوك»، وهى تجربة نادرة حاليًا، حيث لم يعد تبادل الرسائل والأفكار التى تحتويها، بما فيها من موافقات أو اختلافات، محل اهتمام الكُتاب. وما تتسم به هذه الرسائل أنها ليست رسائل عفوية القصد والخاطر، مختلفة بذلك عمَّا اعتدنا قراءته من الرسائل الأدبية التى تنشر فى معظم الحالات بعد وفاة مرسليها، فهى ليست رسائل شخصية تروى ما لا نعرف عن كاتبيها، لكنها رسائل ومساجلات تم تبادلها حول موضوع محدد، وهو مناقشة وضع المرأة فى العقل العربى، فالموضوع محدد، لكن كل رسالة تقدم طرحًا كاشفًا، اختلافًا أو اتفاقًا، لنقطة ما وردت فى الرسالة السابقة، والشاعران يقدمان مداخلات فكرية وثقافية، مع استعراض للتاريخ الثقافى والمشاهدات الحالية للتعبير عن تصور كل منهما عن وضعية المرأة فى مجتمعنا العربى. 

يبدأ الكتاب برسالة للشاعر أشرف البولاقى يطرح فيها سؤالًا «فوقى» من موقع الفاحص: «هل يمكن أن تكون المرأة ناقصة عقل ودين فعلًا؟». 

ومجرد طرح هذا السؤال هو فى حد ذاته تعبير عن صورة المرأة فى الذهنية العربية، لأنه لا أحد يطرح السؤال المقابل: «هل يمكن أن يكون الرجل كامل عقل ودين فعلًا؟». 

وأستطيع أن أتفهم غرض الكاتب من طرحه «أن تكون حليفًا للشيطان كى تطرح رؤاه وتصوراته عن قضية قد تتوافق أو تختلف حولها»، فالسؤال المطروح قادم من موروث دينى ثقافى، يرفض استخدام العقل لفحص المرويات، ويخلط ما بين الدين والشريعة، ما بين المقدس والفقه الذى هو تأويل المقدس، يؤمن بمرآة واحدة، ولا يعرف أو يتغافل تعدد المرايا. 

يحاول الكاتبان عبر رسائلهما المهمة رمى حجر فى البحيرة الراكدة، حيث لم يعد المثقفون يناقشون قضاياهم الأساسية ومعضلات أزمتهم الفكرية إلا فى نطاق الندوات والمؤتمرات الرسمية. 

فطرح السؤال السابق فى أى ندوة سيقسم المحدثين إلى فريقين، الأول يدفع بحجية أنه ليس بحديث ثقة، أو حديث حسن، لكن لا يمكن إغفاله. والفريق الآخر سيحاول الإثبات من خلال ذكر وقائع أو حالات حققت فيها المرأة منجزًا ما بمقياس الذكور. 

لكن الكاتبان عمرو الشيخ وأشرف البولاقى يتبادلان أفكارًا وآراء بعضها جديد، مثل رأى عمرو الشيخ بأنه يمكن النظر لهذا الحديث من رؤية بانورامية، لا تتم فيها نسبة النقص أو الكمال عند المرأة إلى كمال الرجل، بل إلى ما تملكه المرأة من كمال، كما يحدث عند وقوع نقص من مال غنى ووقوع نقص من مال فقير. وقد كنت أتوافق مع هذا الطرح لو لم يكن سياق الحديث التهديد والوعيد بأن النساء أكثر أهل النار. 

ويطرح البولاقى رغبة فى معرفة طبيعة المرأة بمعزل عن الثقافة والتقاليد، وهو طرح غير علمى، فعزل العوامل المحيطة بظاهرة ما يسمى بالتجارب العلمية، وهذه تتم داخل المعامل والمختبرات، ويقوم بها علماء متخصصون فى دراسة الفروق بين الرجل والمرأة، وفيها يتم قياس الاستجابات أو مستوى الهرمونات، وما عدا هذه المعامل فلا يمكن عزل العوامل المحيطة، وستكون النتائج غير عقلية، أو غير علمية، وتكون نتائج مضللة. 

يتفق الكاتبان على حق المرأة فى كامل حريتها بوصفها إنسانًا كامل الأهلية، دون منح من الرجل أو وصاية، فمن يمنح يمكنه أن يمنع.

وأورد الكتاب آيات قرآنية تعلن علو منزلة الرجل عن المرأة، منها «وليس الذكر كالأنثى»، وقد وجد المفسرون المحدثون أن هذه الآية تدل على علو الأنثى على الذكر بطبيعة العلاقة بين المشبه والمشبه به، ولو كانت الأفضلية للذكر، لكان منطوق الآية «وليست الأنثى كالذكر». 

وهناك مسائل ذكرها الكتاب عرضًا ولى فيها رأى، مثل: ما يتعلق بإمامة النساء الرجال فى الصلاة، لا يوجد نص يمنع ذلك، لكنها آراء فقهية.

وفيما يخص طاعة المرأة زوجها، فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، وقطع الرحم معصية، وإذا كانت بيعة الحاكم تسقط بالجور والظلم وعدم اتباع تعاليم الله، فالأولى أن تسقط القوامة وما يتبعها من امتيازات تشريعية بمخالفة الرجل تعاليم الله، وبما أنه ينصب من نفسه إلهًا فى البيت لا راد لقراره، وقد جاء الدين ليحرر الإنسان من رق العبودية لأى شىء أو إنسان أو فكرة أو أيديولوجية، فكيف يقبل بأن تكون المرأة عبدة لزوجها. فلو أن هناك محاولات حقيقية وجادة لإنصاف المرأة لقامت المؤسسات الرسمية بسن تشريع يُجرم نشوز الرجل أو الزوج الذى لا يقوم بواجباته، والذى لا ينفق على أبنائه، والذى يمسك زوجته ضرارًا، والذى يعدد الزوجات بدعوة القدرة المادية والجنسية، لكن لا يتم النظر إلى الضرر والإيذاء النفسى الذى يعود على المرأة، وإبعاد الضرر مقدم على جلب المنفعة. 

هل يستطيع عالم الدين اليوم تجريم تعدد الزوجات فى ظل الظروف المجتمعية الحالية التى لا يعدد فيها الرجل إلا بحثًا عن ملذاته؟ ألا يكون هذا التجريم معينًا للرجل ضد نفسه وشهواته وإنصافًا للمرأة من الصورة الذهنية التى تترسخ عن نفسها بأنها متاع، وهو ما يرد على ملحوظة وردت برسالة «لكن تغيير وعى المرأة بالنظر إلى نفسها ليس بوصفها متاعًا، وأن لها حقوقًا طبيعية، وأنه قد تم كل شىء من قبل الدولة والمؤسسات، ولكن لا فائدة».

- فكرة المهر فى الإسلام، الزواج علاقة تعاقدية، ماذا إن تنازلت المرأة عن المهر؟ 

والأساس أن يؤثث الرجل بيت الزوجية، لكن ما يحدث فى بلادنا أنه لا توجد امرأة فعليًا تأخذ مهرًا فى يدها، أو يضاف لحسابها فى البنك، بل إنها تشارك فى تأثيث بيت الزوجية بما يفوق قيمة المهر عشرات المرات، فمفهوم المهر غائب فعليًا، ومع ذلك نبقى تبعاته، التى تجعل المرأة متاعًا، ومع مشاركة المرأة فى الإنفاق على الأسرة تسقط القوامة، وتصبح المسألة أن الإنسان رجل أو امرأة، زوج أو زوجة يأخذ بالرأى العاقل، الراجح، الأحسن، الذى فيه صالح الأسرة، فلا يوجد تسلط منهجى، لكن تخضع الأمور لحساب العقل وما فيه الصالح. 

فالواقع تجاوز الكثير من المفاهيم الفقهية. لكن سيطرة العقل الدينى النفعى هى التى تفعل ما تريد من أحكام، وتضعف ما لا يوافق مصالحها كسلطة ذكورية التوجه.

يرد بالكتاب الكثير من الآراء والاستخلاصات التى تدعو لدراسة وبحث كيفية الخروج من هذا السجن الثقافى الدينى الكبير الذى يكبل حرية المرأة وروح الرجل.

- «يعانى العقل العربى من الهوس الدينى والهوس الجنسى، وكلاهما متحالف ضد المرأة» وهو «عقل فقهى مبنى على حفظ الأحكام الفقهية، وليس على قراءة وتحليل الواقع وتغليب المصالح».

- يعجز المثقف العربى عن القيام بدوره، فليس له دوائر تأثير ومساحات متاحة لتشكيل الوعى بسبب الضغوط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وضغوط التراث والميراث الفقهى، لكن ما يدعو للدهشة أن يتعامل هذا المثقف مع المرأة بآلية الغزو والقنص والصياد والفريسة، مما يجعله لا يختلف كثيرًا عن الأصوليين.

- تخلط ثقافتنا بين الإسلام وتاريخ المسلمين، فأى حديث عن تجديد الخطاب الدينى هو دوران فى الدائرة المفرغة، بل يجب نسف هذا الخطاب وتغييره والبحث عن خطاب يرتكز على المبادئ الإنسانية العامة.

- إن الحديث عن قضية المرأة لا يكون إلا بالحديث عن الحريات السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية. 

- يحوى الكتاب من الأفكار والقضايا الجادة الكثير، وهو كتاب مهم يحتاج إلى قراءات عميقة، ويحتاج إلى تفاعل مجتمعى ومناقشات حول ما ورد به من تساؤلات وأطروحات، لا تخص النخبة الثقافية، لكنها تخص جموع النساء والرجال. 

أحييى هذا الكتاب القيم، والتجربة التى أتمنى أن تتكرر فى موضوعات كثيرة، وأن تعود الأطروحات الجادة الرصينة للنقاش، وأن نحول «فيسبوك» إلى منتدى عالمى وليس مجرد مقهى للعابرين.