رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تعدد الخلفاء في الزمن الواحد.. هل يسقط شرعية الأنظمة الإسلامية؟

تعبيرية
تعبيرية

سادت حالة من الاضطراب في الدول الإسلامية بعد خلفية سقوط الخلافة العثمانية عام 1924، وأدى ذلك إلى ظهور اتجاهين قويين لبحث البديل عنها، وهما الاتجاه القومي الذي ينادي بالوطن القومي، خاصة في القاهرة ودمشق وبيروت، وهو امتداد للحركة القومية التي تبناها كل من بطرس البستاني في بيروت، ورفاعة الطهطاوي في مصر، وميشيل عفلق في سوريا، وبعد سقوط الخلافة بعامين ظهر اتجاه يتبني فكرة إقامة الخلافة الإسلامية مرة أخرى في مواجهة دعوات القومية، ونال الاتجاه الأخير تأييدا رسميا بمصر في البداية؛ لرغبة الملك فؤاد في تولي منصب الخلافة، إلا أن ظهور جماعة الإخوان في هذه الفترة أدى إلى تحول فكرة الخلافة، إلى اتجاه آخر ذي طبيعة خاصة.

مؤتمر الخلافة الإسلامية بالقاهرة

في مايو عام 1926 احتضنت القاهرة مؤتمر الخلافة الإسلامية الذي عقد برعاية الأزهر الشريف، في دار المعاهد الدينية التابعة للجامع الأزهر في الحلمية برئاسة الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر الشريف، وحضور أكثر من 38 ممثلا عن 13 دولة إسلامية، واستمر لعدة أيام، إلى أن أعلن الفشل في التوصل إلى إقامة الخلافة آنذاك، وتم تشكيل لجنة لمناقشة الصعوبات التي واجهت المؤتمر.

وقررت اللجنة: "إن الخلافة الشرعية المستجمعة لشروطها المبينة في تقرير اللجنة العلمية الذي أقره المؤتمر في الجلسة الرابعة، والتي من أهمها الدفاع عن حوزة الدين في جميع بلاد المسلمين، وتنفيذ أحكام الشريعة الغراء فيها لا يمكن تحققها بالنسبة للحالة التي عليها المسلمون الآن. وإن مركز الخلافة العظمى في نظر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وفي نظر أمم العالم جميعًا له من الأهمية الكبرى ما يجعله من المسائل التي لا يمكن البت فيها الآن للأسباب المذكورة لما يجب أن يراعى في حل مسألتها الحل الذي يتفق مع مصلحة المسلمين في الحاضر والمستقبل".

الإسلام وأصول الحكم

وفي تلك الأثناء ظهر كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ الأزهري علي عبدالرازق، الذي تبنى فيه اتجاها مغايرا للاتجاهين السابقين، الأمر الذي أثار حوله موجة ضخمة من الانتقادات؛ خاصة لأنه تصادم مع رؤية الملك فؤاد الذي كان يجهز نفسه لكي يصبح خليفة للمسلمين.

الإخوان والخلافة

ثم ظهرت جماعة الإخوان المسلمين التي اختطفت فكرة الخلافة من الجميع، وأعطتها صبغة أخرى، مازالت تسري في عروق الجماعات الإسلامية إلى اليوم، وتعتبر الجماعة والجماعات المنبثقة عنها أن فكرة الخلافة على رأس أولوياتها، ولا قيام للدين إلا بها.
يقول حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس:

" الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وإنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكر في أمرها والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي ودفنه، حتى فرغوا إلى تلك المهمة واطمأنوا إلى إنجازها.
والأحاديث التي وردت في وجوب نصب الإمام، وبيان أحكام الإمامة وتفصيل ما يتعلق بها، لا تدع مجالا للشك في أن من واجب المسلمين أن يهتموا بالتفكير في أمر خلافتهم منذ حورت عن منهاجها ثم ألغيت بتاتا إلى الآن .
والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها على رأس مناهجهم".

وهو ما أكده أيضا سيد قطب الذي قال في "ظلال القرآن":
"إن الجهد الأصيل والتضحيات النبيلة يجب أن تتجه أولا إلى إقامة المجتمع الخير، والمجتمع الخير هو الذي يقوم على منهج الله، قبل أن ينصرف الجهد والبذل والتضحية إلى إصلاحات جزئية شخصية وفردية، عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
إنه لا جدوى من المحاولات الجزئية حين يفسد المجتمع كله، وحين تطغى الجاهلية وحين يقوم المجتمع على غير منهج الله وحين يتخذ له شريعة غير شريعة الله . فينبغي عندئذ أن تبدأ المحاولة من الأساس، وان تنبت من الجذور وان يكون الجهد والجهاد لتقرير سلطان الله في الأرض، وحين يستقر هذا السلطان يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئا يرتكز إلى أساس".
(انظر: في ظلال القرآن: الجزء الخامس ص949-951 )

حزب التحرير الإسلامي

ويعتبر حزب التحرير الإسلامي الذي أسسه تقي الدين النبهاني في القدس عام 1953، أن الخلافة أهم أركان الدين التي لا قيام للدين بدونها، ويعطي الحزب بذلك أهمية خاصة للخلافة، ولا يعترف بالأنظمة الحالية ولا الحدود بين الدول، وله الكثير من المنشورات والمطبوعات المنشورة في جميع أنحاء العالم الإسلامي التي تتنبى هذه العقيدة، ومنها كتاب "سعي الأمة نحو الخلافة" ويقول في مقدمته:

" إن استعادة دولة الخلافة الإسلامية هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للأمة الإسلامية أن تستأنف بها حياتها الإسلامية التي توقفت مع تفتت دولة الخلافة إلى تلك الكيانات الكرتونية التي صنعها الغرب الكافر".

ومن هذا المنطلق فلا يعترف أغلب الجماعات الإسلامية الموجودة حاليا بفكرة تعدد الخلافة، أو تعدد الدول والأنظمة وبالتالي فلا ترى طاعة لحاكم، ولا اعترافا بحدود وطنية، أو احتراما لتراب الوطن وجيشه، وكان من نتاج ذلك في النهاية إعلان ما يسمى بالخلافة أو الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، التي وقعت في نزاع مع خلافة أخرى وهي خلافة الملا عمر في أفغانستان.

أصول شرعية

وتستند الجماعات الإسلامية التي لا تجيز تعدد الخلافة في الزمن الواحد إلى عدة نصوص شرعية، وترى أن نصب الإمام فرضٌ لا يسع التخلف عنه، وبالتالي فإن مبايعة الخليفة العام تكون فرض عين على جميع المسلمين، وبالتالي فمن وجهة نظرهم أن جميع الأنظمة الحالية غير شرعية، لأنها لا تمثل الخلافة الإسلامية سواء كانت خلافة جزئية أو عامة.

وهو الأمر الذي يؤكده تنظيم "داعش" على أرض الواقع، وتتلخص رؤية التنظيم حول هذه المسألة فيما نشره على أحد مواقعه والذي يقول نصه:

"لا يجوز أن يكون للمسلمين في الدنيا إلاّ دولة واحدة، وخليفة واحد، ويحرم عليهم أن يكون أكثر من دولة وأكثر من خليفة، سواء اتفقت او اختلفت؟ـ وسواء عدلت أم ظلمت، فوحدة الدولة في الإسلام قضية مصيرية، وذلك لما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قوله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» رواه مسلم، ولما روى مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» وروى مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» وروى مسلم أيضاً عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر، قالوا فما تأمرنا قال: فوا، ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم» .
(انظر: دولة الخلافة.. مشروعيتها لقوم يوقنون، بحث منشور على الصفحة الإلكترونية " دولة الخلافة")

ردود علمية

وعن النصوص الشرعية التي اعتمد عليها، الجماعات الإسلامية التي ترى أن الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي كله اليوم، أنظمة غير شرعية، وبالتالي لا يعترفون بها لأنها لم تقم على نظام الخلافة الشرعي.

قال الإمام الصنعاني في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
"من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ومات فميتته ميتة جاهلية"
(أخرجه مسلم في صحيحه, كتاب الإمارة حديث رقم: 1476) ".
قوله: "عن الطاعة"؛ أي طاعة الخليفة الذي وقع الاجتماع عليه وكأن المراد خليفة أي قطر من الأقطار، إذ لم يجمع الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية؛ بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم إذ لو حمل الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام لقلت فائدته.
وقوله: "وفارق الجماعة"؛ أي خرج عن الجماعة الذين اتفقوا على طاعة إمام انتظم به شملهم واجتمعت به كلمتهم وحاطهم عن عدوهم".
(انظر: سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام، الجزء الثالث، ص499).

وهو القول نفسه للإمام الشوكاني:
وقال العلامة الشوكاني: "وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر – أو أقطار – الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر كذلك ولا ينعقد لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته.
فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه وكذلك صاحب القطر الآخر... ودع عنك ما يقال في مخالفته؛ فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار.
ومن أنكر هذا فهو مباهت، لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها".
(انظر: السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار ، الجزء الرابع، صفحة: 512)

وهو أيضا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية الذي تستند هذه الجماعات إلى مؤلفاته بعد اجتزائها في أغلب أدبياتهم، قال ابن تيمية:
"والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد، والباقون نوابه، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين أو غير ذلك؛ فكان لها عدة أئمة : لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق".
(انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية، الجزء 34، صفحة: 167-168).

كما رد ابن تيمية أيضا على ابن حزم في قوله بعدم جواز تصيب إمامين للمسلمين على الإطلاق، قال ابن حزم في مراتب الإجماع، ص144:
" واتفقوا أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان لا متفقان ولا مفترقان، لا في مكانين ولا في مكان واحد".

قال ابن تيمية تعقيباً على كلام الإمام ابن حزم:
"النزاع في ذلك معروف بين المتكلمين في هذه المسألة- كأهل الكلام والنظر- فمذهب الكرّاميّة وغيرهم جواز ذلك وأن علياً كان إماماً، ومعاوية كان إماماً .
وأما أئمة الفقهاء: فمذهبهم أن كلا منهما ينفذ حكمه في أهل ولايته، كما ينفذ حكم الإمام الواحد".
(انظر: نقد مراتب الإجماع، ابن تيمية، ص 216).

وخلاصة رأي العلماء في ذلك، جواز تنصيب إمامين للمسلمين في مكانين مختلفين، وهو المعمول به منذ نهاية الدولة الأموية، وكما هو واقع الآن في كل الدول الإسلامية، كما يرى العلماء عدم جواز تنصيب إمامين في مكان واحد، وبالتالي فإن دعاوى الجماعات الإسلامية بأن الأئمة والحكام القائمين حاليا في الدول الإسلامية ليسوا أئمة شرعيين مردودة عليهم، بل ويجب على الحكام قتال من دعا لنفسه منهم بالبيعة أو نصب نفسه خليفة عاما للمسلمين أو إماما على منطقة بعينها، لأن الأدلة الشرعية كلها قد أجمعت على أن من فعل ذلك مفارق للجماعة، وتسري عليه أحكام البغاة.