رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نظرية «رطل اللحمة» فى مواجهة الأغلبية «القادرة»

لم نكن نعرف فى صبانا وطفولتنا أيامًا لأكل اللحوم المذبوحة سوى يوم السوق.. هو يوم خاص بكل قرية.. يُسمى باسمها.. وكانت «رائحة المرق» تتسلل من أى بيت «طابخ» إلى فضاء الغيطان والشوارع فنعرف أن بيت فلان طابخين «النهارده».

لم يكن هناك من «يشكو» أن والده لم يستطع شراء «رطل اللحم» هذا الأسبوع.. أو أن الأسعار غالية مع أن القدرات الشرائية للجميع باستثناءات قليلة جدًا كانوا من «المستورين» ليس أكثر.

كانت موائدنا عامرة دومًا من خيرات أراضينا.. سواء كانت بالفدان أو بالقيراط.. أجدع فلاح فينا كان عنده خمس فدادين مش أكتر وهؤلاء قلة.. لكن أحواش المنازل كانت عامرة بالمواشى.. وصحن المنزل عامر بصوامع الغلال و«المكبات».. و«المكب» لمن لا يعرف هو بناء من الطين والطمى مع إضافات منزلية أيضًا من التبن وما شابه.. يتم صنعه على شكل نصف دائرة مقلوب.. توضع تحته «مواجير» اللبن والزبد والسمن المصنوعة من الفخار.. وطالما أن البيت عنده «قربة» وبيخض اللبن فلا بد وأن هناك «جبنًا أخضر» قد تمت صناعته بمهارة نسوية فائقة.. «بعضه تم تنشيفه تحت الشمس.. وبعضه عرف الطريق إلى «علاوى المش».. ذلك الجبن الذى نسميه اليوم «الجبن القريش».. وأى منزل كان لا بد وأنه ممتلئ بأكنان- جمع كُن- الفروج وأعشاش المالطى وقطرة الأرانب.. لم يخل بيت من خيرات الله من وز وبط وحمام وما شابه.

ومن لم يستطع شراء «رطل اللحم» يوم السوق تقوم «سيدة الدار» بالواجب ونجرت لها بحة.. أو وزة أو دكر مالطى.

كانت الأمور تبدو لنا بسيطة ولأهلنا كذلك.. أولئك الذين كان بعضهم لا يغسل يده عقب العشاء لتظل رائحة «اللحم» فيها وكأنها أهم «برفيوم.. قادم من باريس.

فهل كان أهلها وقتها لا يعانون من عدم وجود «قوة شرائية».. هل كانوا جميعًا يستطيعون شراء «أقماع السكر» و«أشولة الفريك».. هل كانوا يعرفون الطريق إلى محال المنظفات أم أنهم كانوا يشترون أقماع الصابون الأبيض والأسود لتتولى بنات الدار «بشره» بالساعات؟!

كانوا بسطاء.. وأظن أنهم كانوا سعداء أيضًا.. وكانت «ضيقة الحال» تدفعهم إلى مواجهة الجميع.. الغلاء والبلاء بأفكار أكثر إنسانية وشجاعة..

وعرفت الغناء لأول مرة فى حياتى من أولئك الذين كانوا يتقاسمون «السقاية» يدًا بيد أمام «الطمبور» تلك الآلة الدوارة التى تجلب الماء من «الترعة» إلى «القناية» بشرط عدم التوقف عن «دورانها»، الأمر الذى يحتاج إلى أربع سواعد تجلس قبالة بعضها البعض.. تتقاسم التعب والصبر والغناء.

العمل بطريقة تكافلية كان يجرى فى قريتى الصعيدية بطريقة فذة.. اليوم نحن نحرث الأرض بالمحراث البلدى أبوبقرتين عند غيط عمنا فلان.. وأولاد عمى «علان» يشاركوننا «دريس» القمح على النورج ببقرات عمى «ترتان».. اليوم عندك وغدًا عندى والمقابل عرق السواعد.. هكذا كان الأمر حتى فى مواجب العزاء كل واحد فينا بيشيل غداء أو عشاء ضيوف أهل المتوفى.. هكذا نمت العائلات وكبرت حتى دخلنا الحياة الاستهلاكية بكل مفرداتها التى جردتنا من سعادة «المشاركة» فصرنا خمسة أفراد من أسرة واحدة فى بيت واحد يجلس كل فرد فينا فى حجرته عيونه مربوطة بشاشة الموبايل.. وكأننا لا نعرف بعضنا البعض.. وربما تمر أيام دون أن يجمعنا «صحن» غداء واحد.. بالبلدى أولادنا «ما عادوش متربيين على طبلية أبوهم» سرقتهم حياة المدن التى طغت على عادات الريف ودمرتها.

سيقول لك البعض إن مسألة العودة إلى ما كنا عليه مستحيلة.. هذا صحيح لكن الأفكار نفسها لا تبلى ولا تموت.. أن تأكل من عرق جبينك.. أن تتعاون مع جارك.. أن تنتج ما تأكله.. أن تقتصد فى الأزمات.. هذه أفكار لا تموت.. والأزمة التى يعيشها العالم كله الآن تدفع الجميع، شعوبًا وحكومات، إلى اتخاذ تدابير عاجلة حتى تستقر البيوت وتسعد.. وهذا ما بدأ أهل قريتى وقرى مجاورة فى الأسبوع الماضى تنفيذه فعلًا.. ليس كل الأمر بالتأكيد.. لكنهم اتخذوا قرارًا شجاعًا فى مواجهة جشع «تجار اللحوم» تحديدًا.. أبلغوا الجميع بأنهم سيتوقفون عن الشراء وأنهم سيقومون بالذبح بمعرفتهم.. كل عائلة ستشترى ما تحتاجه من «عجول أو خراف» وستقوم بذبحها وتوزيعها على أفراد كل عائلة.. وأمام التهديد الصريح الذى حوله البعض إلى فعل.. قام الجزارون ودون اجتماع بالخضوع للأمر وتخفيض الأسعار بمقدار عشرين جنيهًا للكيلو مرة واحدة.

هذه الفكرة البسيطة تشير باختصار إلى أننا «أغلبية قادرة» يمكنها السيطرة على الأسواق إذا أرادت بمشاركة الحكومة وفعالياتها بالطبع.. وأعتقد أن العديد من السلع عادت إلى طبيعتها وأسعارها قبل اندلاع الحرب فى أوكرانيا.

الآن ربما يلجأ بعض التجار من أصحاب الذمم الخربة إلى «حجة ارتفاع سعر الدولار» لمعاودة الكرة مرة أخرى.. هذه المرة لن تستطيع الحكومة وحدها أن تخمد تلك الفتنة.. لكن هذه الأغلبية القادرة تستطيع، فأصحاب السلع البائرة لن يجدوا لتجارتهم «مشترين» إذا ما فعلنا مثلما فعل البسطاء من أهل قريتى وجيرانهم فى الصعيد الجوانى. وربما نجدها فرصة مع حلول الشهر الكريم وموائده العامرة لنستعيد بعضًا مما فقدناه من «روايح زمان الحلوة».

ربما..