رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى محبة الصعاليك

قضيت فى الأيام الفائتة أوقاتًا طيبة مع سيرة وقصائد الشعراء الصعاليك فى الجاهلية وصدر الإسلام، ولا أدرى لماذا؟، ربما للهروب من الأجواء الكابوسية التى تحاصر البشرية كلها هذه الأيام، وربما لأن الصعلوك يعيش فى حالة خوف دائم وترقب قلق وحذر طوال الوقت.

الصعلوك كما عرّفه الدكتور شوقى ضيف فى كتابه «العصر الجاهلى»: «الصعلوك فى اللغة هو الفقير الذى لا يملك من المال ما يُعينه على أعباء الحياة»، كان غسان كنفانى يؤمن بأنه لكى تفهم وتدرس الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والقبلية فى الجاهلية وصدر الإسلام عليك بملاحقة الآثار الشعرية الهائلة التى خلفها الشعراء الصعاليك، لأنهم كانوا يمثلون حركة التمرد على البناء الطبقى والعرقى والاجتماعى للقبيلة، كتب كثيرًا عن هؤلاء الشعراء، ولكن كما يقول كنفانى، كتابة تشبه الكتابة عن تاريخ إذاعة بيروت أو حركة الثورة فى فيتنام أو تاريخ هوليوود أو الهنود الحمر، لقد نجح التقليديون والمحافظون فى تشويه صورة الشعراء الصعاليك والنيل منهم، باعتبارهم قطّاع طرق خارجين عن القانون، لأن قبائلهم لم تحتمل نزقهم فأخرجتهم من النعيم، هؤلاء بلا شك كانوا صوت الضمير الحى والشجاع، وكانوا طلائع حركات تقدمية لسوء حظها تفشل دائمًا، كانوا يمثلون رفض المضطهدين للاضهاد، وثورة المسحوقين اجتماعيًا وعرقيًا على الطبقة الأرستقراطية المتحكمة بالرزق وبسطوة التقاليد، هؤلاء بمواهبهم العظيمة ضحوا بالاطمئنان القبلى، وخلعوا منها ومن حمايتها، ونجحوا فى تحطيم هيبة هذا الكيان المقدس، كان الموت يحاصرهم طوال حياتهم، لذلك تتولد داخل كل واحد منهم روح الاستهانة به، وتولدت فيهم أيضًا روح العبث والشجاعة والضراوة فى القتال، ولا يخلو شعرهم من حالة القلق والمرارة والشعور بالوحدة الحياتية، التى لا نصير لهم فيها غير سيوفهم ورفاقهم من الصعاليك، كان شعرهم مرآة تعكس الألم من جور الحياة وقسوتها، مما دفعهم إلى انتقاء ألفاظ خشنة، تعبر عن غلظة نفوسهم التى أجبرتهم الحياة عليها، تمردوا أيضًا على القوالب الشعرية المتعارف عليها فى الجاهلية، لن تجد عندهم الأغراض المعروفة مثل الوقوف على الأطلال أو الغزل وما إلى ذلك، كانوا يدخلون فى الموضوع مباشرة، كانوا أصحاب قضية، قضية رأى وقضية لون وقضية طبقة، لا يمكن التعامل معهم كما يتعامل القبليون العتاة والتقليل من شأنهم، لأنهم نماذج شريفة وعملاقة فى تاريخ الكبرياء العربى، والصعاليك جاءوا فى ثلاث مجموعات، الأولى مجموعة الخلعاء، وهم الذين خلعتهم قبائلهم لكثرة جرائرهم مثل حاجز الأزدى وقيس بن الحدادية وأبى الطحان القينى، والثانية هم أبناء الحبشيات السود وهم ممن نبذهم آباؤهم ولم ينسبوهم إليهم مثل تأبط شرًا والشنفرى والسليك بن السليكة، والثالثة مجموعة المتصعلكين من الذين احترفوا الصعلكة ومنهم قبائل كاملة ومنهم أيضًا عروة بن الورد العبسى، أشعارهم كانت مرآة لطبيعة حياتهم التى تفتقر للأمن والاستقرار، فتوزعت فى معظمها فى مقطوعات متفرقة، حملت فى كل منها جانبًا معينًا من جوانب حياتهم، فوصفوا من خلالها الأسلحة، التى كانت لهم عزاءهم الوحيد فى تلك الصحارى الغامضة التى تحوطها المخاطر فى ليلها ونهارها، وتحدثوا من خلال تلك المقطوعات عن مغامراتهم وتحركاتهم من أجل تأمين مصادر القوت ولم تخل أحاديثهم الشعرية من ذكر العدو الذى يتربص بهم، فيقابلونه بالوعيد والتهديد، ويتربصون به ويراقبون تحركاته من خلال مكان يدعونه بالمرقاب، حيث يرونه ولا يراهم كى يباغتونه، إن تشردهم وتصعلكهم هذا لم يكن ليشعرهم بالوحدة ويعزلهم عن الرفاق وممارسة حياتهم الاجتماعية بطريقة طبيعية، فقد تحدث أبرز شعراء الجاهلية الصعاليك عن رفاقهم من أمثالهم من الصعاليك، وعن الحيوانات البرية التى كانوا يشاركونها حياة التشرد، كل واحد من هؤلاء ترك أثرًا كبيرًا فى الشعر العربى، ومع هذا لا يزال هناك من ينظر إليه باعتباره محامى القبيلة التى لفظته، عروة بن الورد مثلًا كان من أنبل الصعاليك، لم يقدم على غزو لمآرب شخصية، وكان يطعم الضعفاء والفقراء من قومه، كان من أحد أسمائه «عروة الصعاليك» لأنه كان يجمع الصعاليك ويرعاهم إذا فشلت غزواتهم، وكان كريمًا، وتحكى أساطير عن طباعه النبيلة، الثراث العربى القديم غنى ونحتاج إلى إعادة قراءته دون وصاية، لأن الذين ظلمهم التاريح أكثر مما نعرف.