رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

في اليوم العالمي للشعر.. أحمد الشهاوي: الشاعر خلق ليفكك أية كتلة

الشاعر أحمد الشهاوي
الشاعر أحمد الشهاوي

الشعر هو أحد أشكال التعبير، وأحد مظاهر الهوية اللغوية والثقافية، وهما ما يعتبران أغنى ما تمتلكه الإنسانية، فمنذ قديم الزمان، عرفت كل القارات بمختلف ثقافاتها الشعر، إذ أنه يخاطب القيم الإنسانية التي تتقاسمها كل الشعوب، فالشعر يحول كلمات قصائده البسيطة إلى حافز كبير للحوار والسلام ولذا، تم تخصيص يوم 21 مارس من كل عام للاحتفال باليوم العالمي للشعر.

وفي هذا الإطار قال الشاعر أحمد الشهاوي، إن الشاعر كالمتصوف متقشفٌ ومقتصدٌ وزاهدٌ في نفسه ولغته، سالكٌ مثله ومسافرٌ، يعيش ما بين التخلي والتجلي والتجلد والضنى والمعاناة والاعتزال، فلماذا يقلد المتصوف في زماننا؟، الشعر بالأساس قائمٌ على الحدْس والقلب والمعرفة الروحية، وليس على العقل والنقل والجمع والتقميش من هذا وذاك.

وتابع في تصريحاته لـ «الدستور»: «وإذا كان للصوفي كراماتٌ وكشوفٌ للأسرار ، فإن كرامات الشاعر في الخلق الجديد، والنحت الفريد، والتوليد، والاشتقاق، ورسم الصور غير المسبوقة، وكتابة أحلامه وأسطورته وقلقه وحيرته، واستشراف آفاقه القصية، والتعبير عن حاله بلغة جديدة تبقى حية مهما مرَّت عليها أزمان وأجيال، إن الشاعر وهو يكتب منحازًا إلى روحه يجرِّد نفسه، ويمحو إرادته؛ كي يفوز بنصٍّ هو الذات والإرادة معًا امتثالا لقول الجنيد (أَفْنَيْتَنِي عَنْ جَمِيعِي)، لا شعر سيبقى لشاعرٍ بغير معرفةٍ باطنيةٍ تتأسَّس من قِبَل الشاعر على الإدراك الحدسي، وهنا سأذهب إلى ابن العربي وأستعين به  ليدل على حال الشاعر إذا أراد لشعره أن يبقى بين الناس : ( لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورة)».

وأكمل: «الشاعر عندي هو متصوفٌ بالضرورة عند الكتابة أو في لحظات الولادة، ويكون في حال صفو وشفافية، حيث تكون نفسه نقيةً لا شوائب فيها عندما يبدأ في التدوين؛ لينشىء خلقًا آخر جديدًا، ويصير التصوف الآخر لديه مجرَّد رافدٍ أساسيٍّ يفيد منه ويستلهم ويوظف ما قرأ، لكن لابد من التعويل بالأساس على "ما عاشه" الشَّاعر من تجارب، وما مر به من عذابات وآلام، وهنا تصبح الذات واحدةً في تراكبها وتكوينها ، بفضل النقاء العرقي للنص الذي يخرج من الشاعر ، ينتسب إليه وينتمي ، ولا ينتسب لسواه».

وأوضح: «كان هيجل محقا عندما قال إن " الشاعر لا يوجد بالقوة بل بالفعل"، بالنص لا بالنصر الإعلامي، بحضور الحرف، لا بحرفة الدعاية، بالرؤية لا بالزفة، بالمعرفة لا بمغرفة "الشلة" والجماعة، بذهب القول، لا بزيف "النقد" المصاحب؛ فهناك شعراء ( وكتاب ) أسماؤهم أكبر من آثارهم التي تركوها وراءهم تصارع في الحياة وحدها ، لكن غربال الزمن قادر على فعل التصفية والتنقية بغربلة لا ترحم، لأن الشعر لا يحتاج إلى اعتراف من أحد ، ولا إلى دليل ، فالشاعر يعيش بتنوعه الخلاق ، وخياله الغني الفياض اللامتناهي، حيث يختاره النص، وليس هو من يختار الكتابة، الشاعر مجرد، حذاف، شديد الكثافة، موجز، وموح، الشاعر حيوي، منطلق، شاطح، لا تقيد حدود أو أعراف جمالية أو فنية عوالمه، صامت، بعيد عن الثرثرة، خالق أساطير، حواره الذاتي الباطني أعلى من سواه، ذو فيض طبيعي لا ينضب، هو كيميائي من طراز خاص ، يعيش طوال حياته في المصهر، يشطف نار ذهبه، لا يتاجر بأفكاره ، يساوره قلق الخلق وتوتر الابتكار ، يكدح أدبيا كأنه في صراع مع الحياة، ومع النفس، لا يبارح مكتبه إلا قليلا ، فالشاعر يعيش بالشعر ويكتب حياته ، وقد اختار عبودية العمل الذي لا ينقطع مهما تكن المغريات والملذات في الحياة وهي كثيرة ، يعيش في تأمل ، وبحث ومقارنة من دون انقطاع لوصله المتصل».

وأضاف: «الشاعر يكره الأنساق والسياقات والأقفاص والأدراج والأصنام والصور الجاهزة الموروثة، إذ هو حر من كل أسر، يشعل نيرانا غريبة ويؤججها ، ويكشف كواكب مجهولة ، يتدفق النص من رأس روحه كماء العين، الشاعر لا يدري سر صنعته ، ولا جوهر خلقه ، ولا يعرف شيئا عن نتاجه ، بل كثيرا ما يسأل : كيف كتبت ذلك ؟ ومتى ؟، لأن الشاعر كائنان : خارجي ، وداخلي ، لكنه يعول كثيرا على الداخلي (الباطني الصموت ) فيه، وقد يكره المحيطون به ذلك الخارجي الذي قد يكون معاكسا ومضادا  لوجه الشاعر الآخر، فهو ابن الأشتات والمتناقضات والمتضادات ، لا يثق إلا في شجاعته ، والتي ربما لا يمتلك غيرها ، إضافة إلى امتلاكه " طاقة الخلق "، الشاعر لا يتبع قاعدة ما ، يطبق بنودها أو شروطها في نتاجه ، ذلك النتاج الذي لا يكتب فيه ذاته وغيرها ، أو يمزجهما معا ككيميائي عارف مجرب خبير ، يرى ما يريد ، يأتي الموصوف المجهول إليه ، أو يذهب  هو إليه ، لا يبحث عن حل أو إجابة ، يجوب الأكوان في الحقيقة والخيال معا ، يرى العوالم بحدسه وحسه الذي يستشرف الآتي ، ويحملها إلى نصه ، لديه قدرة في دماغه على "  إزالة نواميس المكان والزمان " ، يمزج " الأنا " ب " الهو " فيما يكتب ، حيث ينوع ويغير في وسائل التعبير في النص الواحد ، أو في الكتاب الواحد».

واستكمل: «الشاعر يستعيد سيرته وذكرياته وماضيه، كي يكون الهواء شفيفا ونقيا وصالحا للتنفس داخل النص، كما يجعل القمر يسطع في ليل المتلقي، والشمس تشرق في روح من يقرأ النص الشعري، وتلعب الآلام والعذابات والمآسي في الطفولة ، أو في الحياة بشكل عام ، دورا في صوغ جوهر الشاعر، وأظن أنها الأخصب في صب النار في  عمق روحه، والمثير والملهم، حيث يصب الشاعر هذه الأحزان في ماء نصه ؛ لأن الزمن لم يستطع ولن يستطيع محوها، أو يقهرها النسيان، أو يجعل الشاعر يتحرر منها ، أو ينساها ؛ فالشاعر لا يحب أن يخرج من الحياة كأنه لم يكن، لا يحب أن يعيش أو يموت مغمورا ؛ إذ إنه يعيش على أمل أن يبلغ ذروة الأشياء والموجودات، عابرا المسالك، وسائرا إلى الممالك المجهولة قبل المعلومة، وليس جالسا على عرش العدم في العزلة التي يرومها، قد يكون الشاعر خجلا في الحياة، لكنه في النص يصير جريئا ومغامرا كأن جرأته وجسارته الداخلية تدفعانه إلى أن يكون حقيقته في النص».

وأشار: «الشاعر خلق ليفكك أية كتلة، ويركز نظر روحه على شيء ، ويفرط في هذا النظر كثيرا حد أن يؤدي الإفراط إلى الجنون، حتى تصل المخيلة إلى بلوغ الحقيقة والحب، الشاعر يبلغ فردوس الصفاء عندما يكتب ( أي وهو في وضع الكتابة )، ويزداد إذا تدخل الحب وعلت مكانته وتقدست ، وهنا يصير جوهر الشاعر أنقى وأشف من أي وقت كان عليه من قبل الكتابة، حيث تزهر زهور الحواس، ويصل إلى تمام الكمال، والمثالية الناقصة ( إذ لا مثالية ولا تمام في الكتابة وإلا مات صاحبها بعد إتمام كل نص يفرغ منه)، الشاعر يبني ويهدم بخياله اللامتناهي الحدود  ما لم يبنه أو يهدمه في الواقع الذي يعيش ؛ فهو يثأر بخياله، ويزأر، ويعشق أيضا، ويشتهي، حيث يستلهم من سيرته ويستوحي؛ لأن السيرة حاضرة، وحاضر يستمر ويمشي مع الشاعر، ويصحبه حتى لو كان ماضيا ومن الذكرى، التي تستعاد داخل النص من وقت إلى آخر، حيث يلتقط الأصداء التي مع تتالي الزمن تصير أصواتا لا تغيب، إذ تكون الأعلى في " شعر الحواس"».