رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مقهى ريش.. شاهد على تاريخ القاهرة فى قرن       

مقهى ريش
مقهى ريش

كثيرة هى مقاهى مصر، لدرجة تجعل من حصرها مهمة مستحيلة، لكن من بين الآلاف، وربما مئات الآلاف، يبرز اسم مقهى «ريش»، فى وسط القاهرة، وبالقرب من ميدان التحرير التاريخى، كرمز للثقافة والنور والثورة.

القصة الكاملة لـ«ريش» دونتها الشاعرة والروائية الإماراتية ميسون صقر، فى كتابها «مقهى ريش.. عين على مصر».

الملكية بدأت «فرنسية» وانتهت «مصرية».. وزلزال التسعينيات يكشف دعم ثورة 19

«ريش» كلمة فرنسية تعنى الشخص الغنى، وهو اسم أطلقه على المقهى مالكه الفرنسى هنرى ريسينييه، عام ١٩١٤، ثم انتقلت ملكيته إلى اليونانى ميشيل بوليتس عام ١٩١٦، وظلت ملكية المقهى تتداول بين اليونانيين، وهم: ميشيل نيقولا بوليتس ومن بعده واسيلى مانولاكيس، وجورج واسيلى، حتى عام ١٩٦٠، حين انتقلت ملكيته لعائلة المصرى عبدالملاك ميخائيل صليب، ومن بعده ولداه ميشيل ومجدى عبدالملاك.

ورغم الإدارات الأجنبية المتعاقبة لـ«ريش» على مدى ٥٠ عامًا، فإنه لعب دورًا بارزًا فى معظم الأحداث التاريخية والوطنية، ولعل أبرزها ثورة ١٩١٩، ففى عام ١٩٩٢ ضرب مصر زلزال عنيف وحدث تصدع فى جدار البدروم داخل المقهى كشف عن دهليز صغير يؤدى إلى قبو، عُثر بداخله على منشورات وماكينة طباعة يدوية، يرجح أن بعضًا منها منشورات تعود لثورة ١٩١٩، وهذه الماكينة معروضة حتى الآن فى المقهى.

وتذكر مجلة «صباح الخير»، فى تقرير نشره مصطفى عزام، أن اسم المقهى ارتبط بأحداث تاريخية وسياسية بارزة، مثل محاولة اغتيال يوسف باشا وهبة، رئيس الوزراء المصرى فى ديسمبر ١٩١٩، عن طريق تفجير موكبه، حيث جلس الشاب الثورى عريان سعد على «ريش» وبحوزته قنبلتان فى انتظار مرور موكب رئيس الوزراء من شارع سليمان باشا لاغتياله بسبب تعاونه مع المحتل الإنجليزى.

كما شهد «ريش» أيضًا ذكريات مشاهير السياسة والسُّلطة فى مصر والعالم العربى، واجتمع فيه: الزعيم سعد باشا زغلول، ومريدوه، واعتاد على الجلوس عليه سنوات صدام حسين، رئيس جمهورية العراق الأسبق، خلال فترة دراسته فى مصر، وأعضاء مجلس قيادة الثورة نهاية الحُكم المَلكى، وقبيل اندلاع ثورة يوليو ١٩٥٢.

وشهد المقهى عام ١٩٧٢ حادثًا ثقافيًا أحدث ضجة واسعة فى الوطن العربى؛ حيث انطلقت منه انتفاضة الأدباء والمثقفين الوطنيين احتجاجًا على اغتيال غسان كنفانى، الروائى الفلسطينى الشهير.

ومن «ريش» خرجت انتفاضة الطلاب عام ١٩٧٢، وكذلك أصدر توفيق الحكيم بيانه السياسى الشهير فى اليوم نفسه، مطالبًا فيه بإنهاء حالة «اللا سلم واللا حرب» حينها، ووقّع عليه عدد كبير من الكُتّاب والمُثقفـين.

ووفق ميسون صقر، فتح المقهى أبوابه لاستقبال ثوار ٢٥ يناير ٢٠١١، محاكيًا تاريخه السابق لاستعادة الزمن البعيد، الذى كان فيه مقهى «ريش» فضاءً للحرية الشخصية وممارساتها، ورغم وجود مقهى منافس هو «البورصة»، لكن «ريش» كان القاعدة التى ينطلق منها الثوار إلى ميدان التحرير.

وتشير إلى أن قرب «ريش» وتمركزه فى وسط القاهرة جعله مقصدًا للأدباء والمثقفين، وتنقل عن الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى قوله: «كنا نجد فى مقهى ريش نعمان عاشور ويوسف إدريس وميخائيل رومان ونجيب سرور، وهؤلاء كانوا الشعراء المجددين، وكان لا بد لهم أن يلتقوا دائمًا من أجل المناقشة وتبادل الآراء وتوحيد المواقف». 

ويذكر «حجازى» بعض الأصدقاء المقربين الذين كان يلتقيهم فى مقهى «ريش»، وأولهم الشاعر الراحل أمل دنقل، ويقول: «كان قريبًا منى جدًا، وكان يعتبر نفسه تلميذًا لى، وهو تلميذ من التلاميذ الذين يطاولون أساتذتهم، وهو الامتداد الأساسى لى، وأعتقد أنه أهم الشعراء المصريين والعرب فى جيله».

المالك اليونانى استقدم فرقة موسيقية للعزف كل ليلة

بدأت قصة مقهى «ريش» مع الفن حين اشترى اليونانى ميشيل ميخائيل بوليتس المقهى من صاحبه الفرنساوى هنرى ريسينييه، وكان «بوليتس» محبًا للفنون والآداب، فقرر إجراء توسعات على المقهى وإدخال الموسيقى فصار يمتد من مكانه الحالى ليطل على ميدان سليمان باشا «طلعت حرب حاليًا» بحديقة واسعة مميزة، ضمت تياترو وكشكًا للموسيقى، ومع وجود هذه الحديقة الواسعة بدأ النشاط الفنى لمقهى ريش فعليًا، وكانت هناك فرقة تعزف الموسيقى الكلاسيكية والعسكرية كل يوم واستمرت حتى عام ١٩١٩.

كان لكل نشاط ترخيص خاص بمزاولته، وبعد ثلاث سنوات استطاع المالك بوليتس أن يفرض الموسيقى بمساندة الجيران، وأن توافق السلطات الأمنية على إضافة «تياترو» إلى رخصة المقهى، وافتتح المسرح رسميًا، ونشرت جريدة «المقطم» خبرًا عن ذلك على صفحتها، وكان الترخيص مشروطًا بألا يتجاوز وقت العزف العاشرة مساءً.

لم يكن «ريش» بعيدًا عن مركز الحركة الفنية فى ميدان الأزبكية الذى يبعد عدة شوارع عن المقهى، فكان على مقربة من شارع محمد على، ومن الجهة الأخرى على مقربة من شارع عماد الدين، وفى أجواء هذا النشاط الفنى الكبير استطاع المقهى بفضل حسن إدارة صاحبه الجديد، الذى كان من قبل مديرًا لمسرح الأزبكية، أن يترك بصمة، وأن يرتبط بأسماء العديد من المشاهير فى عشرينيات القرن الماضى، بل إنه تحول لمفرزة للفنانين والمبدعين ومنصة للشهرة فى مصر والوطن العربى.                                                  

نجيب محفوظ فضّله على «الأوبرا»

ارتبط اسم «ريش» باسم الأديب العالمى الراحل نجيب محفوظ، الذى بدأ التردد على المقهى عقب واقعة شهيرة حكاها الأديب الراحل جمال الغيطانى، بقوله: «فى أحد أيام ١٩٦١ كان الرئيس جمال عبدالناصر ذاهبًا لصلاة الجمعة فى الأزهر، وكان موكبه يمر من شارع الجمهورية ويتجه إلى ميدان الأوبرا، ثم إلى ميدان العتبة فشارع الأزهر، ضمن خطة تمويه لتأمين الموكب، وكان هناك البعض من ضباط الحراسة فى الشارع، فلاحظوا أناسًا يضعون النظارات يدخلون مقهى الأوبرا، الواقع فى شارع جانبى صغير ويتكوّن من ثلاثة طوابق وفيه سلّم حلزونى، وأن واضعى النظارات يدخلون هذا المكان واحدًا وراء الآخر، فشكّوا فى الأمر، فصعد ضابط إلى المقهى ووجد الأدباء مجتمعين حول الأستاذ نجيب». ويضيف: «تقدّم الضابط ناحيته وسأله: (من أنت؟).. فعرّفه نجيب محفوظ بنفسه، وقال له: (نحن أدباء نجلس هنا منذ عام ١٩٤٣)، فطلب منه الضابط بطاقة تحقيق الشخصية، فأعطاه إياها نجيب، وفى الأسبوع التالى حضر ندوة محفوظ ضابط أمن وجلس خلف الأدباء، وبعدما انتهت الندوة تقدّم إلى محفوظ وقال له: (أنتم تتكلّمون كلامًا غريبًا وترددون أسماء أغرب، مثل تولستوى، وأريد منك تلخيص تلك المناقشات كى نأخذ فكرة عنها)». فى الأسبوع التالى، اتخذ «نجيب» قراره بإنهاء علاقته بمقهى الأوبرا، وانتقل إلى «ريش» الذى صار مقرّه الأول، حتى إن المثقفين والنقاد الأجانب كانوا يرسلون الخطابات إلى نجيب محفوظ على مقهى «ريش» وليس على عنوان بيته. وفى المقهى توجد صورة معلقة لأديب نوبل مع إهداء بخط يده كتب فيه: «تحياتى لمقهى ريش وأهله الباقين والراحلين» بتاريخ ١٩ مارس ١٩٨٩.

كان شاهدًا على زيجات مشاهير الأدب والفن والصحافة

شهد المقهى الكثير من قصص الحب التى تكلل بعضها بالزواج، ومن أبرزها روز اليوسف ومحمد عبدالقدوس، اللذان كانا بطلى فرقة عزيز عيد الفنية فى البدايات، حيث كان «محمد» يغنى المنولوجات بين فصول المسرحيات، بينما تمثل «فاطمة». وكان الحبيبان يتبادلان الأحاديث عن المسرح والفن والموسيقى مما أحدث تقاربًا عاطفيًا بينهما تكلل بالزواج. ومن قصص الحب الشهيرة القصة التى جمعت شاعر العامية الراحل أحمد فؤاد نجم بالكاتبة صافيناز كاظم، وتكللت بالزواج، وأيضًا قصة الحب الشهيرة بين الشاعر الراحل أمل دُنقل والأديبة عبلة الروينى، حيث اعتاد «دُنقل» ارتياد المقهى مساء كل يوم، فالتقته لحوار صحفى لجريدة الأخبار، ثم توالت اللقاءات. وشهد «ريش» أيضًا زواج الشاعر عبدالرحمن الأبنودى والمخرجة السينمائية عطيات الأبنودى التى اقترن اسمها باسمه، وهى صاحبة الأفلام التسجيلية المهمة مثل «حصان الطين» و«أيام الديمقراطية» وغيرهما.                        

فاتن حمامة: فى نظراتك لى أجمل معانى العطف 

البداية لدى فاتن حمامة، التى كتبت تقول: «أمى العزيزة، كم أود الآن أن أؤكد لك عظيم امتنانى وشكرى للصورة الرائعة التى تلقيتها هدية منك منذ أيام، الصورة التى تحمل أجمل ذكريات حياتى، الصورة التى تجمعنى أنا وأنت، وأنا طفلة أرتدى ثياب الهلال الأحمر».

وأضافت متحدثة عن تلك الصورة: «لقد سجلتها عدسة المصور لنا بعد أن صورنى فى هذه الثياب، الصور التى اشتركت بها فى مسابقة الأطفال، إننى أحس شعورًا فياضًا بالحب عندما أتأمل هذه الصورة، ففى نظراتك لى أجمل معانى العطف وأقوى مظاهر الحب والحنو».

مريم فخرالدين: أعتقد أن هذا اليوم لكِ وحدك

لم تجد مريم فخرالدين أعظم من أمها فى الوجود، وقالت: «يا أمى العظيمة، ونحن نحتفل بعيدك، أشعر أن الناس جميعًا يشاركوننى فرحتى واحتفائى بك، بل أعتقد أن هذا العيد لك وحدك، وحبى لك الذى يملأ قلبى يصور لى أن كل شىء يجرى فى الدنيا ويتصل بالأم هو خاص بك وحدك دون سائر الأمهات».

وأضافت: «لقد أحببت كل شىء فى الوجود من أجلك، فأنت مخلوقة لا مكان فى قلبها لحقد أو كراهية، تعلمت منك كيف أحب الناس وأوفر الخير لهم وأقف إلى جانب المظلوم.. أمى العظيمة لكِ منى أجمل وأطيب التمنيات».

ماجدة: أقدم حياتى طائعة فداك

وجدت ماجدة فى والدتها معينًا على الصعاب، وتقول: «أمى، لن أسبغ عليك آية من آيات التعظيم والإكبار، ولن أحيطك بعبارات التبجيل والاحترام، فأنت أكبر من هذا كله، أنت أمى، ولن أقدم لك فى عيدك هدية أو تذكارًا فأنت أكبر من الهدايا جميعًا». وأضافت: «كل ما أستطيع أن أهديه لك هو حياتى أقدمها طائعة فداك، وهى فى نظرى لا تساوى أقل القليل مما لك من أفضال، أنت المعنى العظيم للحب والسلام، أنت السند القوى الذى ناصرنى فى أحلك ساعات حياتى، أنت القوة التى وقفت ترد عنى الكيد، كيد المتزمتين من أفراد الأسرة الذين عارضوا اشتغالى بالفن، فكنتِ ملاذًا أنقذنى من التهديد والموت».