رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف تقول «لا» بكل اللغات!

بداية، ينطوى عنوان المقال على بعض التورية اللفظية، إذ ليس المقصود من المقال التعامل مع «لا» النافية كما تعلمناها فى قواعد اللغة أو البلاغة، وإنما مناقشة ثقافة الاعتراض والرفض والتسلح بقوة الرفض والتحلى بملكات الاعتراض وقوة الجدل لدى الاشتباك الفكرى مع الغير.

ليس خفيًا أن الموروث الثقافى قد أدرج مساحة كبيرة لأصول الاعتراض والنفى والنهى لدى تربية الأبناء منذ نعومة أظافرهم، واكتظ قاموس التربية بالكثير من محددات الاعتراض وآداب الرفض، سواء لدى النقاش مع الغير أو فى سياق جلب الحصص والحقوق، فسمعنا عن ضرورة الرفض والاعتراض بالصوت الخفيض والتحلى بعلامات الخجل أدبًا لدى الاعتراض على الإملاءات الأبوية، بل تجاوزت أساليب التربية الحد الأدنى من حق الأبناء فى الاعتراض أو الرفض، حتى فيما يخص رغباتهم الشخصية، مثل اختيار الملابس وقصات الشعر ونوع الأنشطة أو تحديد دائرة الأصدقاء التى يرغب الطفل فى تأسيسها أو الانضمام إليها.

لا شك أن هذا النوع من الإملاءات الديكتاتورية قد ساهم، بشكل ملحوظ، فى ترسيخ ثقافة التنازل عن الحقوق والثقة بالنفس لدى البعض، وهو بلا شك نمط مشوه من البناء النفسى.

من الواضح أن فكرة الربط بين قواعد التحلى بالأدب وتنحية الذات تخدم النمط الأبوى الديكتاتورى، الذى يخشى المواجهة، ولا يقبل بالاعتراض أو الجدل من الأصغر سنًا، وهى خطيئة تربوية لا أخلاقية أورثت قبول البعض العبودية والتبعية وساهمت فى شيوع ثقافة التعايش والتأقلم مع الهزيمة والتنازل عن الحقوق.

لم يتعلم البعض من المنهج القرآنى فى تربية البشر، عندما أمر الله إبليس بالسجود لآدم؛ فعصى إبليس أمر السجود وجادل ربه، وجاء الدرس فى أن عزة الله وجلاله لم يقفا حائلين فى السماح لإبليس باستكمال حديثه لتبرير العصيان، فلم يخرسه الله، ولم ينه وجوده، بل منحه أجلًا لإتيان البرهان، وفى سياق آخر نتعلم من الكتاب الكريم درسًا مفاده أن جدل العظيم مع الضئيل- ولله المثل الأعلى- لا يعتبر ضربًا من التعدى أو التطاول «وإذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى»، فلم يغضب رب العزة من طلب سيدنا إبراهيم البرهان من ربه فى كيفية إحياء الموتى. هذه الدروس الربانية تحدد الكثير من القواعد فى كيفية بناء واستئناف الجدل فى القضايا الخلافية، حتى عندما تتعاظم الهوة بين أطراف الحوار.

إذن أين تكمن الإشكالية فى التعبير بـ«لا» النافية أو الناهية؟

لعل طريقة تقديم الأشياء قد تثرى أو تجهض قيمة ما يقدم، بمعنى أن جُل القيمة فى منهج الاعتراض، وليس فى عائد الاعتراض، لذا تخصصت مناهج البروتوكول السياسى والاجتماعى واكتظت مناهج الإتيكيت بتدريس سبل الاعتراض لدى الاختلاف لتجنب الوصول لمرحلة الخلاف ووضعت الكثير من الضوابط لدى الاعتراض أو الرفض، على النحو الذى يضمن التحلى بالأدب وضمان عدم استفزاز الطرف الآخر.

ضوابط الرفض كما تحددها الأعراف الأخلاقية:

وضوح الرفض: إذ يجب أن يكون الرفض واضحًا، فلا مبرر للتعبير عن الرفض بنصف الحسم أو الاعتراض بنصف القبول، أو تعليق الأمور من المنتصف بعبارات يصعب بسببها الفصل لاحقًا لدى نشوب أى نزاع، مثل «لنتفاءل خيرًا ولا مبرر للتشاؤم»، وهى عبارات قد تدفع أحد طرفى الحق إلى استشعار الراحة كذبًا واستئناس الحلول. إذن الحسم بالرفض الواضح هو السند المقبول.

الاعتراض الجرىء: ويقصد بالجرأة هنا إظهار الجدية والمجاهرة بالحسم، لأن التسويف اللفظى أو التورية ربما يتسببان فى توسيع هوة النزاع جراء تباين الأفهام وعدم وضوح النوايا.

الشجب المهذب: الشجب هو الاستنكار الذى يبرر فى طياته سبب الرفض أو الاعتراض؛ لأن الرفض المطلق بلا مبرر، أو الرفض الذى لا يتحلى بالسببية قد يبدو فظًا ومستفزًا، وربما يدفع الطرف الآخر إلى شحذ أدوات الصراع وغلق أبواب التفاوض، ومعلوم أن المجاهرة بالسببية تسهم بحصة كبيرة فى إقناع الخصم بقبول الرفض ويحول دون تحريك حفيظته أو الإساءة لكرامته.

الاعتراض بمنطق الاختلاف لا الخلاف: فكما هو معلوم أن الاختلاف هو تباين وجهات النظر، وهو أمر مقبول فى الحوار، أما الخلاف فهو مرادف للصراع، وغالبًا ما ينطوى على بعض درجات العداء، أو الكثير من التحدى، وهنا تتحول حلبة النقاش إلى ساحة استعراض للقوة، وربما أدى الأمر إلى استدعاء بعض الأسانيد الكاذبة لشحذ القوة.

النهى الأمين: غالبًا ما يأتى مفهوم النهى فى سياق النصح، الذى يحاول به أحد الطرفين نفى الأمر، لكن من خلال النصح عوضًا عن النفى المطلق. أكثر مجالات النهى شيوعًا هو أوامر النهى الأبوية لدفع الأبناء للعدول عن أمر غير مرغوب به، ويعلمنا المنهج القرآنى أن النهى هو الزجر لوقف إتيان أى فعل سيئ فى الحاضر أو فى المستقبل، والشىء اللافت أن النهى أقل حدة وأسبق مرحلة من التحريم، فالنهى ينصب على الفاعل ويحده من إتيان الأمر المنهى عنه، مثل قوله تعالى «لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ...» فالنهى هنا يستهدف الفاعل لا الفعل، أما التحريم فينصب أمره على الفعل وليس على الفاعل، كما جاء فى قوله تعالى «حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير...» فأمر التحريم هنا جاء على إتيان الفعل وليس لزجر الفاعل.