رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

120 سنة عبدالوهاب

يوم الأحد الماضى مرت ذكرى ميلاد الموسيقار العظيم محمد عبدالوهاب، وأسعدنى الاهتمام الرسمى بهذه الذكرى، فى الإذاعة والأوبرا ومتحفه وعلى معظم المواقع الصحفية، محبوه يتكاثرون مع مرور الزمن بسبب الفراغ الرهيب الذى يعانى منه عشاق فن الغناء منذ سنوات فى مصر، أما كارهوه فيتناقصون بشكل ملحوظ، ولكنهم يظهرون بين الحين والآخر لعرض وجهات نظرهم السطحية والعنيفة فى منجز سكن وجدان الجميع.

هو كان يقول إنه ولد سنة ١٩١٠ كما هو مدون فى بطاقته الشخصية، أما المؤرخون أمثال رتيبة الحفنى وعبدالعزيز العنانى وفيكتور سحاب وغيرهم قد أجمعوا على أنه ولد سنة ١٩٠٢، استنادًا إلى شهادات من تعرفوا عليه فى بداياته، مثل منيرة المهدية، التى قالت إن عمره كان ٢٥ عامًا سنة ١٩٢٧ عندما عملت معه، وقرأت مؤخرًا موضوعًا طريفًا فى «الكواكب» نُشر فى ديسمبر ١٩٥٧، سعت المجلة من خلاله لإعادة «تسنين» عبدالوهاب، وذهبت إلى عدد من مجايليه وأساتذته لمعرفة سنه الحقيقية مثل أحمد رامى ومحمد يوسف شمعون «الذى اكتشفه أيام كان صبى ترزى» والفنان حامد مرسى، وكلهم أجمعوا على أنه أكبر من عمره فى البطاقة بثمانى سنوات، هو ولد يوم ٤ مارس، ولكنه يحتفل بعيد ميلاده يوم ١٤، لأن جدته ماتت فى اليوم الذى ولد فيه، سناء البيسى بقلمها الجميل كتبت: «ابن عطفة الجداوى المبلطة بالحجر والنشع فى الشعرانى الجوانى، ربيب اللوحة الشعبية الناطقة بالزغاريد والعديد والصوات والآهات والنداءات وعيل تايه يا ولاد الحلال، وسط زحام الخلق وبيوت الناس المتساندة على آخر رمق قبل السقوط»، يعرف الجميع تاريخ الرجل وأنه ولد فى باب الشعرية، وكان أبوه مؤذنًا فى مسجد سيدى عبدالوهاب الشعرانى «الذى هو جده»، ويعرفون معاناته وحفره فى الصخر إلى أن وصل إلى ما وصل إليه، الكتابة عنه ليست سهلة، هل سيتم تناوله كملحن نقل الموسيقى الشرقية من مكان إلى مكان أوسع، أو كمطرب لم يصل صوت رجالى إلى قامته، أو كمؤلف موسيقى له ٦٠ مقطوعة من أعظم ما أنجز فى الموسيقى أو كممثل، أو كسيرة حياة لشخص تربى مثل فقراء مصر وصادق أحمد شوقى وملوك وأمراء ورؤساء العالم العربى كله، أو محطاته الملهمة فى ألحانه للآخرين؟، محمد عبدالوهاب إلى آخر لحظة فى حياته كان عابرًا للأجيال، وكان ملهمًا لمجايليه ولتلاميذه، لأنه دائمًا يأتى بالجديد، قال عنه عباس محمود العقاد: «عبدالوهاب وسّع السلم الموسيقى العربى حتى أصبح يتناول الأغانى التى كنا لا نألفها فى الزمن الماضى، وكانت غريبة عن الأذن الشرقية، استطاع أن يسوق هذه الأغانى ويقرب ما بين بعض الأنغام الأوروبية وكثير من الأنغام الشرقية»، ومع هذا «يستسهل» بعض المتحذلقين ويختزلون الأستاذ وتاريخه وموهبته بقولهم إنه كان «يسرق»، هل كان عبدالوهاب فى حاجة إلى السرقة؟، قبل سنوات كنت أجلس فى مكان عام مع أصدقاء نتناقش فى موسيقاه، وكان معنا أحد كارهيه، ودخل المكان ثلاثة شباب جلسوا على مقربة منا، ولاحظوا حدتى وعصبيتى، وأنا أدافع عن صاحب النهر الخالد، اقترب منى أحدهم وصافحنى واختفى وصديقاه دقائق وعادوا يحملون آلاتهم الموسيقية «اثنان بالكمان وواحد بالعود» عرفت فيما بعد أنهم حملة ماجستير فى الموسيقى، ويعملون بالليل مع المطربين فى الأماكن الليلية، وأنهم دخلوا المكان فى انتظار سيارة ميكروباص ستقلهم بآلاتهم كما يحدث كل ليلة، وبدأ الشباب الموهوبون يعزفون ويغنون لعبدالوهاب حتى الصباح، وتحوّل المكان إلى ساحة بهجة لم يشهدها أحدنا قبل ذلك، محبة الناس له لا يؤجر عليها المحب، هو تسلل إلى الوجدان بموهبته الفريدة، يعرف أصدقائى محبتى له، لأنه سليل الأحزان القديمة المتجددة، والقادر على تجاوزها بموسيقاه الرشيقة الحادة الحنونة المباغتة، حمل على كتفيه بعد سيد درويش مسئولية عظيمة، وهى أن يغنى الناس معه، أن يغنى الناس معًا، أن يغنى نيابة عن الناس، عبدالوهاب ضرورة لتجاوز الألم، معه لا تحتاج إلى أصدقاء آخرين، سيمد روحك ويزيح التراب عن قلبك المزدحم بالآهات المكتومة، معرفته بالناس جعلته كبيرًا، صوته قديم ومرفرف وخفيف وطيب، قادر على المشى معك، تشعر بأنه اختارك أنت تحديدًا ليغنى لك، معه تستعيد مصر الصداحة الغنية بالأصوات الطازجة، مصر التى أنجزت فى الموسيقى والغناء، ما يجعلها قوية ومنسجمة.