رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من «دولة العلم والإيمان» إلى «الكعكة الحجرية»

أصدر الرئيس أنور السادات دستور ١٩٧١، وهو الدستور الذى استعاد اسم «مصر»، فأطلق على الدولة «جمهورية مصر العربية»، وشطب على المسمى الناصرى السابق: «الجمهورية العربية المتحدة». وأصبح الأمر مثار تندر لدى البعض ممن تحدثوا عن الدولة التى تغير اسمها ونشيدها وعلمها ٣ مرات، على مدار فترة زمنية لا تزيد على ٢٥ عامًا، لكن الملمح الأهم فى الدستور الجديد مقارنة بأقرب دستور سبقه «دستور ١٩٦٤» تمثل فى الحضور المكثف للدين.

ذكر الدين ورد فى دستور ١٩٦٤ عند الحديث عن الأسرة، حيث أشارت المادة السابعة منه إلى أن الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية، ونصت المادة الخامسة منه على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها، كما نصت المادة «٣٤» على أن حرية الاعتقاد مطلقة، وتحمى الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقًا للعادات المرعية.

ويختلف الأمر فى الجملة وكذا فى التفاصيل داخل دستور ١٩٧١ الذى كان الدين حاضرًا فيه بكثافة أعلى، وفى أطر نوعية مختلفة. فالمادة الثانية منه تنص على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية، مثلما هو الحال فى دستور ١٩٦٤، لكنها تضيف: «ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع». وأبرزت المادة رقم «١٢» منه والمتعلقة برعاية المجتمع الأخلاق وحمايتها أهمية التربية الدينية كأداة من أدوات تحقيق هذا الهدف، ونصت المادة «١٩» صراحة على أن «التربية الدينية مادة أساسية فى مناهج التعليم العام»، ونصت المادة «٤٠» على عدم التمييز بين المصريين على أساس الدين أو العقيدة.

حديث دستور ١٩٧١ عن الدين وأدواره كان أكثر كثافة وتفصيلًا، مما كان عليه الحال فى دستور ١٩٦٤، وأبرز تطور حدث على هذا المستوى هو النص الصريح على أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع، فلأول مرة ينص صراحة داخل وثيقة دستورية، منذ دستور ١٩٢٣، على الشريعة كمصدر لإنشاء القوانين والتشريعات، وحقيقة الأمر أن الفلاح الحصيف أنور السادات تعامل بحرفية أكبر من سابقيه مع موضوع الشريعة.

فاستحضار الشريعة الإسلامية فى الدستور مكنه من مغازلة قطاع عريض من الإسلاميين الكامنين داخل المجتمع المصرى، والذين عاشوا فترة بيات شتوى أيام جمال عبدالناصر، رأى السادات أنه بحاجة إلى دعمهم بعدما لم يعد الاتحاد الاشتراكى ظهيرًا شعبيًا له، عقب الإطاحة بأمينه العام على صبرى والعديد من قياداته فى حركة ١٥ مايو، لذلك كان من الطبيعى أن يسعى إلى مغازلتهم، بالإضافة إلى مغازلة المتدينين المصريين عمومًا، أملًا فى أن يكوّن منهم ظهيرًا شعبيًا مساندًا له.

وظنى أن السادات أدرك أن ثمة بابًا قانونيًا قائمًا بالفعل يأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية ويعتمد عليها، وهو باب الأحوال الشخصية والمواريث، وبالتالى فكل ما فعله فى مادة «دين الدولة» هو الإقرار بما هو كائن، مما لا يلتفت إليه أحد، وأصبحت المادة معبرة عن واقع حقيقى معيش، حيث كانت الشريعة الإسلامية بالفعل أحد مصادر سن القوانين على هذا المستوى، وكل ما فعله السادات النص على ما هو واقع.

أمر آخر كان قائمًا واستطاع السادات الاستفادة منه، بالنص عليه صراحة ضمن مواد دستور ١٩٧١، حين أكد أن التربية الدينية مادة أساسية فى التعليم العام، فقد ذكرت لك أن سامى شرف، مدير مكتب الرئيس عبدالناصر للمعلومات، أشار ذات مرة إلى أن عبدالناصر هو من جعل التربية الدينية مادة أساسية فى التعليم، وكانت من قبل مادة اختيارية، وبالتالى فكل ما فعله السادات هو الإقرار بأمر واقع لم يكن له فضل فيه.

تراكمت التحولات ذات الوجه الدينى التى أحدثها الرئيس أنور السادات بمرور الوقت، وأدت إلى التفاف قطاع من المصريين حول فكرة الرئيس لبناء دولة جديدة أطلق عليها السادات «دولة العلم والإيمان»، وهو الوصف الذى كان حاضرًا بقوة فى خطاب «السادات» فى الاحتفال بعيد العمال «١ مايو ١٩٧١» وذكر فيه: «دولتنا عشان تتبنى لازم تقوم على مبدأين اثنين متلازمين العلم والإيمان» وأوضح السادات ما يقصد بالعلم فى الأخذ بمعطيات العصر وتكنولوجيا العصر فى تسليح القوات المسلحة، أما الإيمان فسلاح أكيد جربناه يوم ٩ و١٠ يونيو، عندما كان المصريون عزلًا من كل شىء إلا الإيمان. 

استعار «السادات» عبارة «الدولة العصرية» التى تفتقت عنها قريحة الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين فى تفسير النكسة، فأشار إلى العلم وأهميته فى حل كل المشكلات التى تعانى منها مصر، بالإضافة إلى الإيمان، وأطلق على دولته الجديدة «دولة العلم والإيمان». وكما حمل وصف «الرئيس المؤمن» تعريضًا بعبدالناصر، حمل وصف «دولة العلم والإيمان» تعريضًا بالدولة الناصرية التى صدّرت أهل الثقة فى المشهد، وخصوصًا من الاشتراكيين وأحيانًا الماركسيين.

وفضًا لأى اشتباك يمكن أن يقع داخل العقل المصرى بين طرفى ثنائية «الدين والعلم» أفسح التليفزيون المجال أمام الدكتور مصطفى محمود لتقديم برنامج تحت عنوان «العلم والإيمان»، اجتهد من خلاله فى بحث وتحليل الظواهر الإنسانية والطبيعية من منظورى العلم والدين والتأكيد باستمرار على عدم وجود تناقض بينهما.

نجح «السادات» فى إقناع قطاع من كبار السن عبر عموميات «العلم والدين»، خصوصًا هذا القطاع الذى تحفّظ على عصر عبدالناصر والتحولات التى شهدها، لكن الأمر اختلف بالنسبة للشباب الذى كان موزعًا بين أكثر من اتجاه. فأبناء التيار الإسلامى نظروا إلى الخطاب الجديد الذى طرحه السادات بالترحيب المشفوع بالحذر، وعلى النقيض بدا قطاع لا بأس به من الشباب رافضًا السادات وأفكاره حول المجتمع الجديد، كانت الفئة الأخيرة على ولاء كامل للناصرية وأفكارها ووجدت فيما يطرحه السادات ردة عنها، وامتازت بقدرتها على الحراك والتحريك. 

وقد انتهزت هذه الفئة فرصة تلكؤ الرئيس السادات عن اتخاذ قرار الحرب وتحرير الأرض المحتلة بعد أن وعد بأن يكون عام ١٩٧١ عام الحسم؛ فانتفضوا ثائرين ضد السلطة عام ١٩٧٢، واندلعت مظاهرات تحولت إلى اعتصامات بجامعتى القاهرة وعين شمس فى يناير من هذا العام، وتحولت المظاهرات الطلابية إلى ميدان التحرير، خلال إجازة منتصف العام، واعتصموا حول الكعكة الحجرية حتى تدخلت قوات الأمن المركزى ففضت الجمع. 

وقد ألهم هذا الحدث المبدع الراحل أمل دنقل قصيدته الشهيرة «أغنية الكعكعة الحجرية».