رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر فى «الحرب العالمية»: اختفاء الخبز.. وموظفون: «لم نذق اللحم منذ سنتين»

الحرب العالمية
الحرب العالمية

فرضت ظروف الحربين العالميتين الأولى والثانية أجواءً اقتصادية واجتماعية قاسية على مصر، اضطرت الحكومات معها إلى اقتطاع نسب من رواتب الموظفين لاحتواء الأزمة، وامتد التأثير إلى الشباب، الذي اضطر إلى البقاء فى «العزوبية» مجبرًا، خشية الوقوع فريسة لارتفاع أسعار المجوهرات والأثاث.

كما زاد عدد المهاجرين من الأرمن واليهود، واستحوذ بعض رجال الأعمال اليهود على صناعة السينما، وانخفضت نسبة توظيف المصريين حتى رفعوا شكوى يطالبون بحقوقهم، وأُجبر الناس مُكرَهين على الهجوم على مخابز الخبز لسد جوعهم، ولجأت ربات المنازل الثريات للتدبير والاقتصاد فى الإنفاق، وعاش المثقفون فى بؤس ومعاناة.

تخفيض رواتب.. وموظف: «بنلبس بدلة الحكومة بدون قميص»

مع الاحتلال البريطانى لمصر، استحوذ الإنجليز على المناصب المهمة فى الدولة، وابتكروا مناصب أخرى جديدة لزيادة سيطرتهم وهيمنتهم، ولم يتبقَ للمصريين سوى الوظائف المتدنية والصغيرة.

وشغل المصريون نحو ثلثى الوظائف التى يتراوح راتبها بين ٢٤٠ و٤٩٩ جنيهًا، وقلّت نسبتهم فى الوظائف التى تتراوح رواتبها بين ٥٠٠ و٧٩٩ جنيهًا، وذلك فى إطار عمل الاحتلال على أن يظل المصريون فى حالة من العجز والقصور والاعتماد الكلى على الإنجليز، إلى أن سيطروا على شئون البلاد.

وضاقت سبل العيش أمام الموظفين المصريين بسبب ظروف الحرب القاسية، من ارتفاع الأسعار وتكلفة المعيشة، وعدم الحصول على رواتب، والاستغناء عن الموظفين، ووجود الأحكام العرفية.

وزادت الشكوى ورفع الطلبة أصحاب الشهادات شكاوى يطالبون بإلحاقهم فى الوظائف، بعدما أعلن أصحاب المصالح عن عدم وجود وظائف خالية، ووصلت الأحوال إلى البؤس والضنك.

وفصلت الحكومة حوالى ٥٠٠ موظف من وزارة الأشغال، ونشرت جريدة «السفير» فى ١٨ أكتوبر ١٩١٤: «كان أمام الحكومة طريق آخر كإلغاء العلاوات والترقيات التى تمنحها باليمين والشمال، وكان عليها أن تبحث فى دوسيهات المستخدمين عن الذين ترقوا بسرعة البرق بفضل المحسوبية».

واستقطعت الحكومة من الموظف الذى يزيد راتبه على ١٥ جنيهًا ربع المرتب، والذى يزيد راتبه على ٥٠ جنيهًا ثلث المرتب، بحجة التدابير الاقتصادية.

وحكى أحد الموظفين: «لم نذُق طعم اللحم منذ سنتين، وبعنا جميع ما نمتلكه، حتى قضت بأننا نلبس بدلة الحكومة على الجسد دون لباس أو قميص»، حسب وثائق الديوان العالى السلطانى، فى ٢٩ مايو ١٩١٦.

زيادة أعداد الأرمن.. سيطرة يهودية على الاقتصاد.. وظهور الرأسماليين

فتحت مصر بعد الحرب العالمية الأولى أذرعها للمهاجرين الأرمن الفارين من الاضطهاد فى تركيا، حتى وصل عددهم إلى نحو ٤ آلاف أرمنى، حسب كتاب «مصر فى الحرب العالمية الأولى»، للدكتورة لطيفة محمد سالم، أستاذة التاريخ المعاصر والحديث فى جامعة بنها.

وقدم اليهود إلى مصر، ووصل عددهم إلى أكثر من ١١ ألف مهاجر، وتولت الخزانة المصرية الإنفاق عليهم، رغم الأزمة التى كانت تعانيها، وتمتعوا بكل الحقوق والامتيازات، وفق ما نشرته جريدة «الشعب» فى عددها الصادر بتاريخ ٢٧ أكتوبر ١٩١٤.

وجاء فى الجريدة وقتها: «طاف اليهود الأسواق فى مصر لالتقاط الجنيهات الذهبية التى يجدونها بين يدى الجمهور أو لدى التجار، ويدفعون عن كل جنيه أربعة أو خمسة مليمات زيادة على سعره الرسمى ٩٧٥ مليمًا، ولا جرم أن هؤلاء اليهود لا يدفعون هذه الزيادة إلا مقابل الحصول على أكثر منها، فإذا استمرت العملة الذهبية تتوارى عن العيون، وهؤلاء الصيارفة يجدون أثرها، فلا يبعد أن تصل قيمة الجنيه الإنجليزى فى مصر إلى ١٠٠ قرش أو أكثر».

ومارس اليهود أنشطتهم التجارية والاقتصادية دون أى قيود، وأصبح بعضهم من ذوى الأملاك، والآخر احتكر بعض الصناعات المهمة مثل صناعة السينما، ومن بينهم جوزيف موصيرى، الذى أسس شركة للسينما باسم «جوزى فيلم» فى ١٩١٥، أدارت دور سينما فى القاهرة والإسكندرية والسويس وبورسعيد.

وأقام مورينيو شكوريل فى العام نفسه مؤسسة خاصة بتصدير القطن وتسويقه الداخلى، وأصبح عضوًا فى بورصة البضائع ومجلس إدارة جمعية المصدرين. بينما أسس ألفريد كوهين شركة التسليفات التجارية فى ١٩١٤، وحققت انتشارًا واسعًا، وأصبحت لها وكالات فى لندن وغيرها من المراكز التجارية الرئيسية فى العالم. كما أنه بقيام الحرب العالمية الأولى اتبعت إنجلترا سياسة تسببت فى خسائر لمُلاك القطن المصريين، بعدما انخفض سعر القطن تدريجيًا من ١٩ ريالًا فى العام الذى سبق الحرب إلى ١٢، ما تسبب فى خسارة جسيمة لمُلاك الأراضى.

لم تستمر هذه الحالة طويلًا، خاصة بعد ازدياد الطلب على القطن المصرى، وارتفاع سعره بداية من عام ١٩١٥، وتوقع مُلاك الأراضى تعويض خسارتهم، لكن الحكومة حددت لهم المساحة التى تُزرع قطنًا بثلث الزمام، ما جعل المُلاك يطالبون بإلغاء هذا التحديد.

وبالفعل تمت الموافقة على طلب المُلاك المصريين فى عام ١٩١٦، لكن فى يونيو ١٩١٧ حُدد سعر القطن بـ٢٣ ريالًا، ثم حُرمت زراعته فى مصر العليا، إلى أن احتكرت الحكومة الإنجليزية القطن بأكمله فى عام ١٩١٨.

هذه الظروف منحت الرأسماليين المصريين فرصة للظهور والنمو، تحت حماية إلزامية فرضتها ظروف الحرب العالمية الأولى، بعدما انخفضت أرباح الزراعة، وتوقفت الأموال الأجنبية، وتمت تصفية الرأسماليين الأجانب من رعايا ألمانيا وحلفائها.

كما أسهمت هذه الظروف فى وجود صناعات مختلفة تسد حاجة الشعب المصرى، وهو ما دفع الرأسمالية المصرية إلى نزول الأسواق، فارتفعت رءوس الأموال فى البنوك ارتفاعًا سريعًا، خاصة فى البنك الأهلى، والبنك الإنجليزى المصرى، ووصل الرصيد إلى ٣٥.٥ مليون جنيه عام ١٩٢٠، بعدما كان ٦.٥ مليون فى ١٩١٥. 

هجوم على المخابز.. والمكرونة والبطاطس بدلًا من رغيف العيش

كانت مصر طرفًا أصيلًا فى الحرب العالمية الثانية، فمنذ أول أيام اشتعالها فى سبتمبر ١٩٣٩، وبناء على طلب السفارة البريطانية، صدر مرسوم ملكى بإعلان الأحكام العرفية، وتم تعيين على ماهر حاكمًا عسكريًا، وفُرضت الرقابة على الصحف والرسائل والسينما والإذاعة.

وأعلنت مصر قطع علاقتها السياسية مع ألمانيا، وصدر قرار من الحاكم العسكرى بمنع التعامل التجارى مع رعاياها، حسب الكاتب الصحفى صلاح منتصر فى مجلة «أكتوبر» ١٩٨٩.

ووفقًا لما رواه عبدالرحمن الرافعى: «اضطربت الحالة المعاشية للسواد الأعظم من الناس، خاصة فى توزيع الخبز، ولم يحن الأسبوع الأخير من شهر يناير ١٩٤٢ حتى شح هذا الغذاء الأساسى للشعب، واستعاض عنه الكثير من الأغنياء بالبطاطس والمكرونة وما إلى ذلك»، لافتًا إلى أن «الناس فى أحياء القاهرة كانوا يهجمون على المخابز للحصول على الخبز، ويتخطفون الرغيف من حامليه فى الشوارع والطرقات».

وروى جمال بدوى، فى جريدة «المصور»، أن الحكومة أصدرت مرسومًا ملكيًا بـ«تسعير السلع»، وتشكيل محاكم للنظر فى القضايا الخاصة بمخالفة التسعيرة ومحاكمة التجار الجشعين، ومنها محكمة مختلطة بالإسكندرية للتجار الأجانب.

وأعدت وزارة الدفاع كميات كبيرة من الأطعمة المحفوظة لتموين الجيش المرابط على الحدود الغربية، واتفقت مع وزارة الزراعة على إعداد ١٠ ملايين علبة من العدس والفول المدمس والصلصة فى معامل المنتجات الزراعية.

ونشرت مجلة «المصور» حسب «بدوى»، تحقيقًا عن تأثير الحرب العالمية الثانية على نسب الزواج فى مصر، واستشهد بأقوال مأذون حى عابدين، الشيخ محمد عبدالعزيز، الذى قال: «هل تركت الحرب فى الدنيا شيئًا لم تؤثر فيه؟ إذ الحركة بطيئة، بل زفت وهباب، وها نحن قد انتهينا من شهر رجب، وهذا شعبان قد انتصف، وهذان الشهران هما موسم الزواج، ومع ذلك لم أعقد سوى خمسة عقود فقط، بينما كان المتوسط لا يقل عن عشرين عقدًا»، لافتًا إلى أن «نسبة الطلاق فى الشهرين كانت عادية، فى حدود طلاقين أو ثلاثة فى كل شهر».

وحسبما روت سيدة لـ«المصور»، فإن أسعار الموبيليا والأقمشة والمجوهرات زادت وارتفعت، ما دفع الشباب إلى العزوف عن الزواج، مقترحة أن تسارع الحكومة بفرض ضريبة على العزوبية، ليزداد الإقبال على الزواج وتخف الأزمة.

وتأثرت ربات المنازل بواقع الحرب، وفرضت عليهن الظروف متابعة الأسعار، حتى إن السيدات الثريات بدأن فى الاحتياط ومراجعة الإنفاق.

وروت إحدى سيدات صدقى باشا لمجلة «المصور»، أن «ربات المنازل بدأن فى مراقبة المشتريات، والعمل على التدبير والاقتصاد، راضيات أو مجبرات على ذلك»، مضيفة: «ستعجبون إذا عرفتم أنى أخذت أتتبع قائمة التسعيرة حتى أكاد أحفظها عن ظهر قلب!».