رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شرطة المسطحات الفكرية

قد يبدو العنوان ضربًا من الدعابة أو القافية، فالمعروف أن العبارة الأصلية مشتقة من شرطة المسطحات المائية، وهو وصف لفرق الأمن التى تعنى بحماية النيل ومطاردة العابثين به، ولكن العنوان الحالى يستعير لفظ المسطحات للدلالة على التسطيح أو السطحية، أو قل ضحالة التفكير، وهو الأمر الشائك فى قضايا التواصل المجتمعى والتحاور بين الأفراد.

سوف نركز هنا على أنماط التفكير الإنسانى للوقوف على أسباب تحول «الاختلافات» الفكرية إلى «خلافات» أو صراعات تقتل الفكرة، وتناحر أطراف الحوار، ومعلوم للجميع الفرق بين الاختلاف- وهو تباين الأفكار- والخلاف- وهو لفظ مرادف للنزاع- لذلك يجب التنبه لطبيعة الجدلية القائمة بين طرفين أو أكثر، وتحديد ما إذا كانت خلافًا أم اختلافًا.

المتأمل لنشأة الصراع الذى يديره العقل الجمعى لدى مناقشة القضايا العامة يمكنه متابعة كيفية تحول الرأى المعارض إلى اعتراض جدلى يستقوى بالصوت العالى تارة وبالقسوة اللفظية تارة أخرى، بل وقد يتم تغذيته ببعض أوجه العداء أحيانًا. يحدث هذا فى التواصل المكتوب عبر الصحافة الورقية أو منافذ التعبير الإلكترونى والمنتديات وصفحات التواصل الاجتماعى، وغير خفى أن هذه القسوة التى يعتنقها العقل الجمعى فى التواصل تؤدى فى أحيان كثيرة إلى تطاول يصيب أطراف الحوار فى القضايا الخلافية، ولعل أبرز هذه الصراعات تحدث لدى مناقشة الشأن الدينى أو القضايا التراثية من ناحية، أو لدى مناقشة الرؤى السياسية من جهة أخرى، فهل يمكن اختزال المشكلة فى كون العقل الجمعى ليس مدربًا على تعاطى الاختلافات أم أنها لذة الانتصار للذات عوضًا عن الانتصار للفكرة؟

يخبرنا أساتذة السلوك وعلم النفس أن نضب الرصيد المعرفى فى أى قضية حوارية، أو العجز عن مواجهة الحجة بالحجة، يؤدى إلى تنمر الطرف الضعيف فيسعى إلى تعويض فقر المنطق وفراغ الحجة، وبطبيعة الحال قد يتحول الطرف الآخر من محاور إلى مدافع عن شخصه ومصلحته، وباحث عن النصر الجدلى، ولا شك أن هذا السلوك يتيح الفرصة للتطاول واستدعاء الأكاذيب وتلفيق الادعاءات على الطرف الآخر.

كيف تؤمن شرطة المسطحات الفكرية سلامة الحوار؟

بداية، نقصد هنا فئة العقول المسطحة فكريًا، وهى العقول أحادية الرؤية، فعلى سبيل المثال لدى مناقشة قضية الفقر والفقراء قد يكتفى البعض بصب عبارات الرثاء والتعاطف مع الفقراء، والتشدق بعبارات الشفقة والدعوة للتراحم، فليس هناك حصاد أروع ولا أسمى من التآزر مع الفقر والفقراء، وفى المقابل قد يكون طرف الحوار الآخر لدية قراءة اقتصادية، أو يملك حسابات التحليل المنطقى، ويسعى إلى استبعاد العطف والشفقة وعوضًا عنهما يستخدم حسابات العمل والاقتصاد وأساليب الرغد المجتمعى لمعالجة قضية الفقر والفقراء وهى السقطة التى وقعت فيها حكومات عديدة عندما حاولت معالجة الفقر بتقديم الدعم للفقراء دون محاولة تقديم الحلول الأبدية التى تحول ميزان الفقر من العوز إلى الاستقلال الضامن للكرامة، فراحت هذه الحكومات تقدم الدعم لبعض السلع أو مجانية بعض الخدمات تارة، وإغداق المنح والاستثناءات تارة أخرى، وهى حلول واهية لا تعالج مشكلة الفقر وإنما تعالج مظاهره.

تقوم فلسفة علاج الفقر وبعض صور العوز فى المجتمعات التى تنتهج الإدارة العلمية على تحليل أسباب الفقر، فقد تكون بسبب عجز العامل عن الالتحاق بسوق العمل لتقادم الحرفة التى يجيدها مثل مهنة تفصيل الملابس التى أصبح معظمها مميكنًا، أو الفقر المعرفى أو عدم القدرة على توظيف اللغة بما يكفى للتعامل مع التقنيات المستحدثة، أو عدم كفاية التدريب وتحديث الخبرة، وغيرها من أسباب الفقر، ويتبع مرحلة دراسة الأسباب وضع آليات الإصلاح وسيناريو العلاج، ومن ثم يستطيع العامل الانخراط فى سوق العمل من جديد.

عودة إلى «التسطيح» الفكرى، وهو تعبير يقصد به سطحية التفكير، وسطحية المنطق المستخدم فى الحوار، وسطحية استدعاء أدوات الحوار، والفقر البائن لدى الحوار فى القضايا المشتركة، وهنا يستوجب علينا فى عجالة سرد أنماط التفكير كما يقررها العلم الذى يُعرّف التفكير بأنه نشاط ذهنى يهدف إلى استدعاء الرصيد المعرفى كله أو بعضه فى حل إشكالية أو اتخاذ قرار، ولفهم أنماط التفكير يجب معرفة خصائص كل منها:

- التفكير الطبيعى: أو الأولى، ويتسم بالتلقائية والتعميم والتحيز للميل الشخصى وهو ملىء بالأخطاء والعثرات.

- التفكير العاطفى: وهو تفكير وجدانى يخضع لعاطفة الشخص، ويتميز بكونه تفكيرًا لحظيًا متسرعًا، وقد يخضع للخبرات البسيطة والمعتقد الثقافى.

- التفكير المنطقى: وهو التفكير الذى يستخدم أدوات أوسع خبرة من الأنماط الأخرى ويجيد ربط السببية بالنتائج واستخدام معادلات المنطق.

- التفكير الرياضى: ويميزه استخدام المعادلات والرموز والربط بين المعنى والتحديد الكمى.

- التفكير الناقد: وهو نمط تأملى يجيد استخدام الخبرة الشخصية والمنطق فى استنباط الأحكام.

- التفكير العلمى: يجيد استخدام التسلسل العلمى المستخدم فى حل الإشكاليات.

وأيًا كان نمط التفكير المستخدم فى الحوار، يجب ضمان الربط بين السببية والنتائج والفصل بين الثابت والمتغير، وعدم الخلط بين الفعل والفاعل ليتمتع طرفا الحوار بمساحة أوسع لإعمال العقل.

وفى النهاية لا يقصد بلفظ «شرطة» البادئ فى العنوان وضع قيود على العقل أو فرض محددات للتفكير، أو القفز إلى نتائج محددة سلفًا، ولكن الهدف هو ترشيد الانفعالات والحد من الإبحار بعيدًا عن المنطق وتحييد ذات المحاور والتحرك ضمن الهدف الذى ارتضاه أطراف الحوار بلا ميل أو تحيز، والتمتع بجاهزية التسليم أو الاعتذار لدى الوصول لقناعة بالحلول.