رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إبراهيم عيسى ومحاكم التفتيش

شارك الكاتب المصري إبراهيم عيسى في مؤتمر "لا لمحاكم التفتيش" بدعوة من الحزب العلماني المصري تحت التأسيس في عام ٢٠١٥ في مقر نقابة الصحفيين بعد واقعة سجن الباحث "إسلام البحيري" بسبب تصريحات للأخير عن كتاب "صحيح البخاري"، وانزعاج بعض رجال الدين من تلك التصريحات فزجوا به للحبس اتكاءً على الفقرة "واو" من المادة ٩٨ والخاصة بازدراء الأديان، والتي أضيفت للدستور المصري في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، وقيل آنذاك أنها وضعت في الدستور لحماية المسيحيين بعد أحداث طائفية شهدتها منطقة الزاوية الحمراء في القاهرة.
ولم تستخدم تلك المادة أو تطبق قبل واقعة حبس البحيري- إلا مرة واحدة سأتحدث عنها- ثم تلى ذلك واقعة أخرى تخص سجن الشيخ "محمد عبدالله نصر" والذي تم حبسه أيضًا بنفس التهمة واتكاءً على نفس المادة!
المرة الأولى التي تم تطبيق تلك المادة فيها، كانت عندما تم حبس المدعو "أبوإسلام" والذي قام بتمزيق الإنجيل وحرقه، وصرح بأنه سيتبول عليه في المرة القادمة، وبعد واقعة ذلك المتطرف المشينة وحبسه بتهمة "ازدراء الأديان" لم تطبق تلك المادة في أية حالات متطرفة مشابهة، بل تحولت مادة ازدراء الأديان في الدستور وللأسف إلى سوطٍ صار مسلطًا على رقاب الباحثين والمبدعين!، وهذا ما صرح به نصًا إبراهيم عيسى تعقيبًا على حبس الباحث "إسلام البحيري" منذ سنوات.
فقد تم التحقيق بموجب ذات المادة وما يشبهها من مواد في القانون، يعتبرها البعض مواد وقوانين سيئة السمعة، صيغها مطاطة وبالتالي يمكن تأويلها على أكثر من جانب مثل مادة "خدش الحياء العام" والتي سجن بسببها الروائي الشاب "أحمد ناجي" في نفس الفترة التي تم فيها حبس الباحث إسلام البحيري.
وحدث نفس الأمر في السابق مع الروائي المصري الشهير الراحل إبراهيم أصلان، عندما كان يرأس إحدى السلاسل الثقافية التي تصدر عن وزارة الثقافة المصرية، والتي قامت بإعادة نشر رواية الروائي السوري حيدر حيدر، وليمة لأعشاب البحر، في نهاية التسعينات من القرن الماضي، وقامت الدنيا ولم تقعد بعد إعادة نشر تلك الرواية التي نشرت من قبل في مرحلة سابقة كانت أكثر رحابة وأقل تزمتًا وتغير الأمر بمرور السنين.
ومع صعود تيارات الإسلام السياسي في مصر وتصدرها المشهد منذ اغتيال الرئيس السادات، بل ومنذ سماحة لهؤلاء بممارسة أنشطتهم في الجامعات والنقابات فتوغلوا وتسللوا للعقول والبيوت وطرقوا الأبواب ونشروا غلطتهم وفكرهم المتشدد، وظهرت الجنازير في الجامعات المصرية لتحريم الفن ومنع المسرح الجامعي وحرقت أشرطة الفيديو في تلك المرحلة الحالكة من تاريخ الوطن، وظهر غلو وتطرف الكثيرين ممن شكلوا أنفسهم في جماعات وتنظيمات إرهابية أطلقت على نفسها مسميات منذ أواسط ونهايات السبعينيات حتى اغتالت رئيس البلاد ونشرت الحجاب والزي الإسلامي بل والزي الأفغاني، تزامنًا مع حرب أفغانستان والتي جعلوها حربًا من أجل نصرة الإسلام ضد السوفييت الشيوعيين الكفرة! وبسبب تلك الحرب سقط الاتحاد السوفيتي وانتهت الحرب الباردة بين القطبين الكبيرين أمريكا وروسيا، وصرنا نسمع عن جماعات مثل جماعة "أنصار السنة" و"الناجون من النار" و"التكفير والهجرة" وخلافه.. وإن مددنا الخط على استقامته للوراء سنصل لأفكار محمد بن عبدالوهاب وفكر بن تيمية التكفيري المتشدد.
وفي تلك الأجواء المعتمة أيضًا اغتيل الكاتب فرج فودة، ثم جاءت محاولة اغتيال نجيب محفوظ بعد حصول روايته أولاد حارتنا على جائزة نوبل، وكُفر الدكتور نصر حامد أبوزيد اتكاءً على قانون الحسبة وتقرر التفريق بينه وبين زوجته!
كل تلك الممارسات كانت تدهورًا وعودة للوراء، عودة لـ"زمن محاكم التفتيش" و"زمن الاغتيالات" والإرهاب الذي طال رئيس الجمهورية شخصيًا آنذاك، وانفرط عقد الدولة الاجتماعي فشهدنا ما شهدناه من مهازل ومساخر وسطوة لرجال الدين وتدخلهم في شئون الدولة وحيوات الناس، ثم جاءت حادثة الدير البحري في الأقصر وتفجيرات أخرى شهدتها القاهرة وميادينها الشهيرة، وطالت التفجيرات حي الحسين والمعبد اليهودي ثم ظهرت العمليات الانتحارية وفجرت منقبات أنفسهن، ثم فجرت العديد من الكنائس في مصر حتى وصلنا لتفخيخ السيارات واغتيل النائب العام بنفس الطريقة التي اغتيل بها رفيق الحريري في بيروت! وذلك بعد وصول الجماعة الإرهابية للحكم في غفلة من الزمن حتى سقوط جماعة الإخوان المسلمين وإزاحتهم عن الحكم بعد ثورة ٣٠ يونيو، ومطالبة الكثيرين بإلغاء أو تعديل مادة ازدراء الأديان ومادة الشريعة في الدستور "المادة الثانية" وكل المواد والقوانين سيئة السمعة، فكل هذا التشظي الذي شهدناه أعادنا لزمن التطرف والإرهاب وزمن "محاكم التفتيش" أيضًا.
وبعد تشديد القبضة الأمنية على الإرهابيين وتصدي الجيش والشرطة لجماعة داعش الإرهابية- والتي هي تجميع لمجموعات إرهابية- تتغير أسماؤها ولكن تظل أفعالها وممارساتها الإرهابية كما هي، فمن "الناجون من النار" لـ"أنصار السنة" لـ"أنصار بيت المقدس" لـ"داعش"، تتعدد وتتغير الأسماء والوجوه بحكم تغير الأزمة ويظل الإرهاب واحدًا !
ورغم انحسار الأعمال الإرهابية على الأرض بفضل القبضة الأمنية ويقظتها وتضحياتها، يظل الفكر الإرهابي يتمدد ويتوغل في العقول ليعيد لنا الإرهاب فكرًا وذهنية على هيئة محاكم تفتيش وقوانين حسبة وخدش حياء وازدراء أديان يحاكم بها الباحثون والمبدعون.
ولقد أصدر الرئيس عبدالفتاح السيسي، مشكورًا، عفوًا رئاسيًا عن الباحث إسلام البحيري، وشجع البحث العلمي والبحث في العموم، وأطلق دعوة للتفكير وإعمال العقل وتفضيله على النقل، وطالب مرارًا وتكرارًا بتجديد وتصويب الفكر والخطاب الديني وتنقية كتب التراث والكتب المدرسية من الشوائب التي يساء فهمها وتأويلها لمآرب لتصحيح الأوضاع ومنع التجارة بالدين، في حين أصدر مرسي العياط عفوًا رئاسيًا عن الإرهابي قاتل فرج فودة، "عبدربه" لينضمن لصفوف داعش في سوريا ويقتل هناك.
كذلك رفض الرئيس عبدالفتاح السيسي التصديق مؤخرًا على الحكم بحبس المستشار والباحث، أحمد عبده ماهر، ليطلق العنان للفكر والبحث وحرية الرأي والتعبير، وسنرى ما ستسفر عنه الأيام المقبلة بشأن الكاتب إبراهيم عيسى، والذي مارس حقه الدستوري في البحث وحرية التعبير وتضامن معه الكثيرون إيمانًا بحرية الرأي والتعبير والبحث وإعمال العقل وتقديمه على النقل.