رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن الآثار الجانبية

حين يكون الهدف من إثارة الرأى العام هو الربح، يعنى أن المجال العام تم جره إلى حيث يريد من لا يتمنون لك الخير، ليس مهمًا أن تكون متخصصًا لكى تتحدث فى موضوع يحتاج متخصصًا، يكفى فقط أن يكون لك كفيل يؤمن بك وبقدرتك على ركوب التريند، بصرف النظر عن الآثار الجانبية التى لا تقل خطورة عن الأمراض التى يسعى المجتمع إلى الشفاء منها.

وإذا كنت من المشغولين بالكتابة ومراقبة التحولات العنيفة فى الخارج والداخل، وتشعر بارتباك حقيقى، وتبحث بدأب عن إجابات تخص المستقبل والأدب والفن والعمارة والموسيقى، ستشعر- وأنت تتابع رقص وسائل التواصل على جثة حدث- بالإحباط، وستكتشف فى النهاية أن المستفيد من هذا العبث هو المتطرف الذى ضحيت كثيرًا لكى تبعده عن المشهد فى الداخل، وأيضًا أعداء الخارج الذين تعرف بعضهم، تشعر أن بلدًا عظيمًا كبلدك يظهر أمام الآخرين بهذا الخواء، لأنك تعتمد على وجوه، تعتقد أنها هى الوحيدة على صواب، وأن المجتمع يجب تربيته «من أول وجديد»، وجوه قديمة قادرة على قفز الحواجز والأزمنة برشاقة وبنبرة صوت من يدعو إلى الحرب، أى حرب والسلام، هم لا يجيدون التأمل، لأنه غير مربح، أنت أمام معارك عبثية فى غير وقتها، تنتهى عادة بالوقوف مع المخطئ لأنك مع حرية التعبير، وتنتظر معركة أخرى تنتهى نفس النهاية، تجديد الخطاب الدينى مسئولية صعبة، لا تأتى بقرار أو برنامج تليفزيونى أو بوست على مواقع التواصل الاجتماعى، تبدأ بنظام تعليمى نظامى لا يميز بين البشر بسبب دينهم أو لونهم أو وضعهم الاجتماعى أو مناطقهم الجغرافية، يحتاج إلى خدمة ثقافية تستوعب التنوع والأجيال ولا تفرق بين العاصمة والأقاليم، تحتاج إلى الإصغاء إلى أحلام البسطاء والتى هى بسيطة للغاية، لدرجة أن الستر يكفى، تحتاج إلى رعاية صحية واحدة لكل الطبقات، حتى نكون شعبًا من الأصحاء القادرين على بناء البلد والدفاع عنه، نحتاج إلى أحزاب ونقابات فاعلة، قادرة على بعث الحيوية فى المجال العام، لسنا فى حاجة إلى شطحات تستهين بالعامة، الرغى الكثيف فى الأيام الفائتة وضعنى فى عزلة إجبارية، حاولت الهروب إلى السينما وكتب التصوف والتاريخ كما يحدث فى مثل هذه الحالات، ولم أقدر على إكمال عمل إلى آخره، ولا يوجد نوم، حتى متابعتى للأحداث الروسية الأوكرانية والتجاوز الإثيوبى السافر بتوليد الكهرباء فى سد النهضة، توقفت عند قراءة شريط الأخبار كل ساعتين، الوحيد الذى أجلسنى إلى جواره كاتب روسيا والإنسانية العظيم دوستويفسكى، رجعت إلى أعمال قرأتها قبل أكثر من ثلاثين عامًا، زحام شخصيات وعذابات بشر وحوارات قادرة على إضاءة عزلتك، فى الجريمة والعقاب يقول أحدهم: «نحن أقوياء، لا عليك بكلام المحبطين، نحن نستيقظ كل يوم لنعيش الحياة نفسها، وفى المكان نفسه ومع نفس الأشخاص، وهذا فى حد ذاته.. كفاح!»، وفى ذكريات منزل الأموات قال أحدهم: «يستطيع إنسان دنىء سافل فى أحيانٍ كثيرة أن يربح قضية وأن يبلغ هدفه وأن يخرج ناصع البياض من برميل حبر»، الأدب العظيم يبعث الطمأنينة أحيانًا، ويخرجك من الأجواء الكئيبة التى يتسبب فيها أشخاص لا يعرفون فى البشر وعذاباتهم وأحلامهم، يتعاملون معهم على أنهم أقل شأنًا وثقافة وخبرة، والحقيقة غير ذلك بلا شك، نعرف ذلك، إيمان العوام له منزلة عظيمة يعرفها العارفون، والاستهانة به خطأ جسيم، ويجب الاعتذار عنه، حتى لا تتطور الأمور، ونجد أنفسنا فى ورطة جديدة تنتهى كما انتهت سابقتها، وربما بشكل أسوأ، آفة المرحلة الاستسهال، وبالطبع النسيان، ولا يوجد كلام جاد فى الموضوعات التى تحتاج فى تناولها إلى خيال جديد يتعامل مع الواقع الجديد بمسئولية، وليس بحثًا عن المكسب والمجد، نحن مع البشرية فى لحظة صعبة، ولا يليق بنا أن تكون هذه هى قضايانا، وفى النهاية تقول إحدى شخصيات دوستويفسكى: «راحتى الوحيدة هى النوم، عندما أنام لست حزينًا، لست غاضبًا، لست تائهًا، أنا لا شىء».