رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إلغاء خانة العقل من البطاقة

يتذكر جميعنا الجدل الذى بدأ قبل عقدين من الزمان بشأن خانة الديانة ببطاقة الرقم القومى، وانقسام فرق الجدل بين مُطالب بالإلغاء ومؤيد لبقاء الخانة دون مساس، وحتى يومنا لم ينته الجدل ولم يُحسم الأمر سواء بالحذف أو بقاء الأمر، ولم يلتفت البرلمانيون لتشريع البقاء أو المنع.

فى الحقيقة، كان الهدف من حذف الخانة حجب خصوصية الديانة عن هوية الشخص والاكتفاء بالبيانات الشخصية والقومية، كون تحديد العقيدة ضمن الأسرار الشخصية، وحسمًا لأى احتمال من استخدام التصنيف الدينى فى استدعاء التفرقة العنصرية أو العرقية بين الناس.

والسؤال الآن: هل نتوقع بعد حذف خانة الديانة من البطاقة أن تزول أشكال التميز أو التمييز العقائدى؟ فى الحقيقة تكمن الإجابة ضمن كلمات السؤال، فلم نرصد فى أى من هذه الاشتباكات الدوجمائية أن التعرف على الديانة هو السبب فى نشوب أى نزاع بين المصريين على أساس دينى، إذن ليس من دواعى الحكمة حجب أمر معلوماتى له العديد من جوانب الاحتياج فى الزواج والطلاق والميراث والكثير من المعاملات المدنية.

تكمن المشكلة الحقيقية فى العقل المنزع من ديانة الآخر، فهذه مشكلة لن تحل بإخفاء الديانة، وهو أمر يسهل التعرف عليه، وإنما بتعديل مفاهيم هذا العقل، لأن القضية بالأساس عزوف هذا العقل عن قبول فكرة التعايش المشترك بين أتباع الديانات، ومعها بالطبع رفض المواطنة على أساس التصنيف المدنى والإصرار على التكتل الدينى، كما أن المتأمل لسلوك أتباع هذا المنهج الذهنى يدرك تعددية المشكلات السلوكية النابعة من هذه القناعة.

وفى سياق موازٍ، يمتد حديثنا عن عقول مماثلة يشوبها العطب وافتقاد المرونة اللازمة لقبول الآخر لدى الخوض فى معارك فكرية أخرى بخلاف العقيدة، فهناك موجة من الشماتة على رحيل بعض الرموز السياسية والفكرية من قبل المختلفين معهم، ناهيكم عن نقد الخصم بالتطاول على شخصه أو أفكاره، لذلك تشتعل الخلافات تحت قبة البرلمان لدى مناقشة أى قضية، مثل تحريك القيمة الإيجارية للعقارات القديمة أو المساس بالدعم، وغيرهما من القضايا التى لا تعالج إلا بالإصلاح التشريعى، وتنتهى أجندة الخلاف وربما تنتقل إلى الدورة البرلمانية اللاحقة.

لا بد من الإقرار بأثر الجمود العقلى فى تكلس مفاصل الدولة جراء فقد المرونة، وليس خفيًا أن نسبة عظيمة من أصحاب هذه العقول هم من الأكاديميين والحاصلين على درجات علمية عليا وبعضهم من أساتذة الجامعات، فالقضية إذن ليست فى نقص المعرفة، بل فى منهجية استثمار هذه المعرفة، وغالبًا ما ينشأ هذا الخلل جراء المشاركة فى حل هذه الإشكاليات دون الإلمام ببعض التخصص الذى يخوّل لصاحبه المشاركة، أو كونه ضمن المتخصصين ولكن رصيد الخبرة قد لا يكفى للمشاركة، فليس كل تربوى قادرًا على صياغة الخطط التعليمية أو لديه الخبرة فى إصلاح المشاكل السلوكية بين تلاميذ المراحل الأولى فى عمر العملية التعليمية.

كيف يتصرف العلم فى مواجهة مثل هذه العقبات سواء المترتبة على نقص المعرفة أو افتقاد الخبرة للاستفادة من المعرفة؟ 

هناك ما يعرف بالمنهج العلمى لحل الإشكاليات، الذى يعتمد على تسلسل منطقى فى فهم المشكلة، وتسميتها وتشخيص السببية، وتحليل جوانب المشكلة، وطرح سيناريوهات مختلفة تفى بالحلول مع بدائل إضافية تستخدم لدى تعثر تطبيق أى من هذه الحلول، وعلى النقيض هناك منهج التجربة والخطأ، وهو منهج بدائى يسمح بتحمل الفشل الجزئى أو الكلى بهدف التعلم الذاتى، وهنا قد تنجح محاولات هذا المنهج بالصدفة، ولكن لا يمكن الاعتماد عليه فى نفس المشكلة إذا تكررت، ولا يصلح للتطبيق مع مشكلات مشابهة.

يخبرنا المنهج العلمى لحل المشكلات بأن الحلول ما هى إلا مدخلات محسوبة يتم إخضاعها للتدقيق والتفعيل، فتؤتى النتائج بأقرب ما يمكن للحلول الممكنة ومعها بالطبع زوال بعض أو كل المشكلة.

كيف تنشأ هذه الفروق بين حَمَلة نفس المؤهلات فى طريقة التفكير حتى بين خريجى نفس المدرسة الإدارية؟ فى الحقيقة سبق أن أجاب العالم المعروف إدوارد ديمنج، الملقب برائد علم الإدارة الحديثة، عن هذا السؤال عندما قام بتصميم منهج «السيجمات» الستة، وهو منهج علمى يهدف إلى القضاء على الفروق الممكنة فى النتائج، بمعنى محاربة أى فرص للتفاوت فى النتائج، وهو ما يعرف بمنهج القضاء على الانحرافات «الفروق»، وليس مقبولًا داخل المنهج وجود أذرع تتفوق على أذرع أخرى فى العملية الإنتاجية، بل الرضا بالأقل مع شرط التماثل والشيوع، ونجح هذا المنهج وأتى بنتائج عبقرية استخدمها مهاتير محمد لدى بناء ماليزيا الحديثة.

يهدف منهج السيجمات الستة إلى تقليص فرص الخطأ فى العملية الإدارية أو الإنتاجية من ٣٠٠٠ فرصة خطأ ممكنة لكل مليون احتمالية إلى ٣.٤ فرصة خطأ ممكنة لكل مليون احتمالية فى أى عملية إنتاجية، سواء فى صناعة السيارات أو الطائرات أو تطبيقات الطب أو الصناعة، وهذا المنهج ابتدعته شركة موتوريلا للاتصالات فى بداية التسعينيات، وانتشرت هذه المنهجية لتستمتع بها نحو ٢٢٠٠٠ شركة عالمية فى غضون عامين من التطبيق الأول للمنهجية، وغنى عن الذكر أن شركات مثل بوينج ورولز رويس ومعهما شركة جنرال إلكتريك، قد تقاسمت النجاح فى جعل السفر بالجو أكثر وسائل النقل أمانًا فى العالم، فبينما هناك فى كل لحظة نحو نصف مليون مسافر بالجو لم تتجاوز فرص التعرض للحوادث جراء استخدام الدراجة النارية، التى هى أعلى ٣٠٠٠ مرة من السفر بالجو.

إذن نحن بحاجة إلى تدقيق حالة العقول التى تزاحم التفكير العلمى وحذفها من البطاقة.