رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جولة جديدة.. كواليس عودة مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل

الحدود البحرية بين
الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل

 

فى الأيام الأخيرة، عادت إلى الواجهة الخلافات بين لبنان وإسرائيل حول ملف ترسيم الحدود البحرية، لاستغلال آبار الغاز الطبيعى وموارد مياه شرق البحر الأبيض المتوسط، وذلك مع استقبال مبعوث أمريكى مختص للوساطة فى تسوية هذا الملف الساخن، الذى قفز إلى الواجهة منذ سنوات.

ويحدد القانون الدولى الحدود البحرية عبر خط داخل فى عمق البحر، يمتد عموديًا مع اتجاه خط الساحل، لكن الأزمة هى أن خط الحدود فى شمال إسرائيل والجنوب اللبنانى متعرج، لذا تستمر الخلافات حول مساحة تقدر بـ٨٥٠ كم، وسط سعى الطرفين للاستحواذ عليها، فى ظل أهمية ترسيم الحدود لكل منهما.

عن كواليس عودة هذه المفاوضات عبر وساطة أمريكية، تدور السطور التالية.

وساطة أمريكية وراء استئناف المباحثات بين الدولتين.. وبيروت تلجأ إلى الأمم المتحدة

على مدار سنوات طويلة، حاولت واشنطن المساعدة فى تسوية النزاع الحدودى بين إسرائيل ولبنان، بما فى ذلك الحدود البحرية.

ويتعلق الخلاف هذه المرة بترسيم خط الحدود البحرية والمياه الإقليمية والاقتصادية، الذى يبدأ بنقطة الحدود فى خط الشاطئ بمنطقة «رأس الناقورة».

الأزمة تطورت فى عام ٢٠١٨، عندما أقر لبنان بأن التنقيبات الأولية عن الطاقة لم تسفر عن نتائج مدهشة فى بعض المناطق، بينما ظهر أن هناك منطقة واعدة يمكنها أن تحقق نتائج مثمرة.

لكن المشكلة كانت أن القسم الجنوبى من هذه المنطقة يوجد كله فى المنطقة موضع الخلاف مع إسرائيل، لذا ولبدء التنقيب من قِبل لبنان يجب قَبل كل شىء تسوية النزاع وترسيم الحدود مع إسرائيل وفقًا لقوانين البحار.

وشرع كل من لبنان وإسرائيل فى محادثات غير مباشرة لترسيم الحدود البحرية، بدءًا من أكتوبر ٢٠٢٠، لكن تم تجميدها فى مايو ٢٠٢١، إثر نشوب خلافات جوهرية بين الجانبين.

وتوقفت المحادثات الأخيرة بين الجانبين، فى «رأس الناقورة»، قبل بضعة أشهر، بسبب مطلب لبنان إضافة مساحة ١.٤٦٠ كم مربع أخرى لمطلبه الأصلى، وهو ما رفضته إسرائيل.

وأخيرًا، زار عاموس هوكشتاين، الوسيط الأمريكى فى ملف ترسيم الحدود بين الجانبين، لبنان، الأسبوع الماضى، بعدما أجرى محادثات فى تل أبيب، ليعود منها إلى بيروت، حاملًا حصيلة المطالب بشأن استئناف المفاوضات غير المباشرة بين الجانبين.

ونجح «هوكشتاين» فى إقناع الطرفين بالعودة إلى طاولة المباحثات، خاصة أن هناك من يعتقد فى توافر ظروف أفضل للتسوية، واستندت محادثاته مع الإسرائيليين على موافقة لبنان المبدئية على الانطلاق من «الخط ٢٣»، فى التفاوض على تسوية حدودية تقوم على اعتماد الخط المتعرّج، بحيث يحصل لبنان على حقل «قانا» بالكامل، فيما تحصل إسرائيل على حقل «كاريش»، مع تركز الخلاف النهائى حول ٨٦٠ كم مربع متنازع عليها فى البحر.

لكن عشية عودة الوسيط الأمريكى إلى بيروت حاملًا مقاربة جديدة للمفاوضات، يتحرك لبنان بشكل مفاجئ، وأبلغ الأمم المتحدة فى رسالة خطية عن تمسكه بحقوقه وثروته البحرية، جاء فيها أنه «لا يمكن القول بأنّ هناك منطقة اقتصادية إسرائيلية خالصة مثبتة، ولا يمكن اعتبار حقل كاريش إسرائيليًا»، ما جعل الخطاب يعد فى رأى المراقبين تراجعًا لبنانيًا إزاء موقفه السابق.

ورأى مراقبون أنّ الرسالة اللبنانية للأمم المتحدة تعتبر الأولى من نوعها منذ ٢٠١١، وتمثل فى الوقت نفسه إعلانًا رسميًا بنقل التفاوض بشأن الحدود البحرية اللبنانية الجنوبية من الخط ٢٣ إلى الخط ٢٩، مع الاحتفاظ بحق تعديل بعض المراسيم المتفق عليها فى حال عدم التوصل إلى حل عادل.

وما يزيد من تعقد الأمر أن عمليات التنقيب قد تؤدى لاكتشاف حقول مشتركة أخرى، لذا فحتى لو تم ترسيم الحدود وفق «الخط المتعرّج»، فإن الأمر يستوجب مراعاة الاكتشافات المستقبلية، حتى لا يتم الوقوع فى مشكلة جديدة لاحقًا.

ووفقًا لذلك، فإن مهمة المبعوث الأمريكى «هوكشتاين» غير بسيطة، ونشر بعض وسائل الإعلام مؤخرًا تقارير، غير رسمية، تفيد بأنه يفكر فى تبديد التخوف اللبنانى، من خلال عرض محدد، فبدلًا من توزيع المساحة المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، ما من شأنه أن يخلق فى المستقبل مشاكل فنية وإدارية، ستكون شركة إنتاج الغاز الدولية مسئولة عن استخراج الغاز البحرى من المساحة المتنازع عليها كلها، وهى التى توزع الغاز على الجانبين، وفقًا للتوزيع الذى قرره الوسيط الأمريكى السابق فريدريك هوف، بنسبة ٥٥٪ للبنان والباقى لإسرائيل.

وسبق أن أعلنت إسرائيل أنها تقبل بهذا التقسيم، إذا ما تنازل لبنان عن مطالبته بمساحة إضافية تمس حقل «كاريش»، لذا يرى كثيرون أنه وفى ضوء الظروف المتاحة هناك احتمال معقول فى التسوية.

ورغم ذلك، فإن الموقف الأمريكى فى هذه المرحلة حرِج، خاصة أن المبعوث «هوكشتاين»، الذى يعد أحد الخبراء الأمريكيين فى مجال الطاقة، قد أدى خدمته العسكرية فى الجيش الإسرائيلى، لذا فإن خلفيته قد تشكل عائقًا أمام تحقيق الحل، بالإضافة إلى ذلك، فإن الولايات المتحدة تحاول منذ سنوات التوسط بين إسرائيل ولبنان بشأن المياه الاقتصادية، لكن دون تحقيق نتائج حتى الآن. 

تل أبيب تسعى لاستغلال أزمة الطاقة وقرب الانتخابات اللبنانية للوصول إلى صفقة بشروط مقبولة

بدأت إسرائيل التنقيب عن الغاز الطبيعى منذ أكثر من ٢٠ عامًا، ومنذ عام ٢٠٠٣، بدأت اكتشافات الغاز الطبيعى فى البحر، وتحققت الطفرة عام ٢٠١٠، عندما أعلن اتحاد شركات عن اكتشاف الغاز فى حقل «ليفاثان».

وفى نفس الشهر، وقعت إسرائيل وقبرص اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بينهما، وأعرب لبنان فى يونيو ٢٠١١، عن معارضته هذا الاتفاق، وردت إسرائيل فى ١٢ يوليو ٢٠١١، وأرفقت الإحداثيات لتحديد حدودها البحرية مع لبنان، وثبت أن الفجوات بين الادعاءات اللبنانية والإسرائيلية تخلق مساحة متنازع عليها تبلغ ٨٥٠ كم.

وبالفعل، أوقفت إسرائيل منح تراخيص جديدة للمنطقة محل النزاع، حتى حل الأزمة عن طريق الوساطة الأمريكية، التى عقدت عدة محادثات منذ ٢٠١٢ لحل النزاع، كان ضمنها تقديم حل وسط يقترح تقسيم المنطقة المتنازع عليها، ووافقت إسرائيل بينما لم يرد لبنان.

وفى مارس ٢٠١٣، نشرت وزارة الطاقة اللبنانية خريطة للمنطقة الاقتصادية البحرية مقسمة إلى «كتل»، وأظهرت الخريطة أن الحكومة اللبنانية تجاهلت تمامًا الموقف الإسرائيلى والحل الوسط الأمريكى المقترح، فى ٣ «كُتل»، هى «٨ و٩ و١٠».

وفى ٢ فبراير ٢٠١٧، شكت إسرائيل للأمم المتحدة من نية لبنان منح تراخيص التنقيب فى المناطق المتنازع عليها، وبالفعل، وفى ٩ فبراير ٢٠١٨، أعلنت شركة «توتال»، المتخصصة فى مجال الطاقة، عن أنها وشركاءها على دراية بالنزاع، وبالتالى فإنها لن تعمل على بعد ٢٥ كم من المنطقة المتنازع عليها.

ومنذ هذا اليوم، تعتبر الأزمة مرشحة للانفجار فى أى وقت، رغم أن التسوية أو اتفاقية الاستغلال المشترك قد تتيح استثمارات ضخمة فى المنطقة.

فى المقابل، يواجه لبنان أزمة خطيرة فى توفير الطاقة، ولا توجد له حلول نهائية فى الأفق، حتى الآن، رغم مساعدة مصر بإرسال الطاقة إليه عبر الأردن وسوريا، وإرسال إيران ٤ سفن محملة بالنفط إليه.

وفى هذه الظروف، يظل استخراج الغاز أمام شواطئ لبنان، فى إطار تسوية مع إسرائيل، حلًا مناسبًا وبعيد المدى لأزمة الطاقة، خاصة بعد انفجار مرفأ بيروت، وما خلفه من آثار اقتصادية، جعلت لبنان يحتاج اليوم أكثر من أى وقت مضى إلى استخراج النفط والغاز من البحر، فحتى لو لم تكن أسعار الطاقة اليوم فى ذروتها، لكنها ستشكل مصدرًا مهمًا للدخل، وحلًا حيويًا للأزمة.

ويعول كثيرون على ارتفاع احتمالات تحقيق التسوية بسبب الأزمة السياسية فى لبنان، وقرب إجراء الانتخابات العامة الجديدة، التى قد تسمح للأطراف بالعمل على إيجاد حل لأزمة الطاقة الحادة، على أمل الفوز فى الانتخابات، ورغم ذلك يواجه الأمر بخشية لبنانية من استغلال إسرائيل التسوية للتقدم فى ملف تطبيع العلاقات بين الجانبين، الأمر الذى قد يتسبب فى مشكلات للقوى السياسية اللبنانية.

وفيما ترى إسرائيل من جانبها أن الوضع الحالى فرصة لتسوية النزاع، خاصة أن الولايات المتحدة لن تفرض فى وساطتها شروطًا صعبة عليها أو اتفاقًا سيئًا، يرى كثير من المراقبين أنه من المتوقع أن تطلق تل أبيب إشارات تفيد بأنها مستعدة للتفاوض بشروط تسوية مختلفة، حتى لو لم يحقق ذلك كل ما تريده إسرائيل.

ويرى هؤلاء المراقبون أن التسوية تجنى لإسرائيل مكاسب فى كل الأحوال، لأن إيجاد حل لنزاع حدودى بحرى مع لبنان، الذى يشكل جبهة مشتعلة بالنسبة لتل أبيب، يعطى بادرة طيبة أنه بالإمكان التوصل لحل أزمة الحدود البرية لاحقًا، وهو ما يعد تهدئة لـ«جبهة ساخنة»، كما أن التوصل للحل يعطى انطباعًا بأن تل أبيب أصبحت تُركز جهودها على السلام، خاصة بعد توقيع اتفاقات السلام مع الإمارات والبحرين.