رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

30 يناير 1948.. يوم اغتيال «أبى» في نسخته الهندية

د. شريف حتاتة، أبى الذي لا يعوض في ندرة حنانه، ونبل أخلاقه، الطبيب والكاتب والمناضل السياسى، 13 سبتمبر 1923- 22 مايو 2017، له روايات وكتب عديدة، التهمتها بنهم، وفخر، ودهشة.

وعندما أعيد قراءتها، أشعر بطزاجة فريدة، وأشعر بالسطور تشدو على أوتار متجددة المعانى، والأفكار والمشاعر. لديه قدرة عجيبة نادرة، لشحن الطاقة الايجابية في النفوس، وتبديد اليأس الممتزج بالهواء. يمنح القوة، يشجع الدأب والمثابرة، لا يتخلى عن مبادئه صعبة الفهم والتحقق. 

في وسط الحصار، يتأمل الطبيعة الموحية بالأسرار، تختزن الجمال والتنوع، تصافح السمو الإنساني في كل أشكاله، تدعمه في أزماته، ومراراته. 

من أجمل كتب د. شريف، أبى، كتاب "طريق الملح والحب" الصادر عن دار المستقبل العربي 1983، وهو يحكي عن رحلته إلى الهند، في منتصف سبعينيات القرن الماضى، والتى امتدت لأربع سنوات. 

بعد استقراره في العاصمة "نيودلهى"، سافرت إليه، ومكثت ثلاثة أشهر، في الهند، أتنقل بين ولاياتها المختلفة، وسحرها التاريخي الفريد العريق، أنهل من حضارتها القديمة الثرية بالحكمة، والشعر، أتنفس عبير الأصالة، والتفاعل الحى المتجدد مع الحياة. 
أنا، وأبى شريف، وقعنا في غرام "الهند"، بكل عجائبها، وتناقضاتها، وموسيقاها تأسر القلوب، وتنوعها الهائل في اللغات والأديان والطوائف والمذاهب. 

وكانت هذه هي بداية تعرفى، على المهاتما غاندى، الذي من أجله، ومن أجل حب الهند، كتب شريف، أبى، كتابه "طريق الملح والحب"، الذي فتح لي مغارة الهند، وكشف أسرارها المحيرة، وتاريخها وصراعاتها ونضالها. وكان "غاندى" بالطبع، هو محور أساسى للكتاب، حتى العنوان "طريق الملح والحب"، يشير إلى مسيرة الملح الشهيرة التي قادها "غاندى"، في 12 مارس 1930، أو مسيرة العصيان المدني، التي استمرت 25 يوما، سيرًا على الأقدام، بآلاف الهنود.
 

ومع مرور الوقت، كانت "الهند" تزداد رسوخا في عقلى، ووجدانى، وكان "غاندى" قد تحول عندى إلى بطل للإنسانية، قلما يتكرم به الوجود.

وكم كانت سعادتى ودهشتى، أننى اكتشف كل يوم، كيف أن أبى، شريف حتاتة، يشبه كثيرا "غاندى" في تواضعه، ومثابرته على الكفاح، وتشبثه بالإنسانية الهادئة، ودأبه الذي لا يكل ولا ييأس، وإيمانه بقضيته التي تخلى كثيرون عنها، وقدرته على المرح في أصعب الظروف.

كنت أعيش مع "غاندى" المصري، النسخة المصرية للمهاتما الهندى. وهذا ترك أثره العميق الراسخ على شخصيتى، وعلاقتى بالحياة كلها. "غاندى" واحد، كاف جدا، لأن يغير الإنسان، ويبدل اختياراته وقناعاته. فما بال أن أكون على صلة قوية، باثنين من دم "غاندى"؟

كان يوم ٢ أكتوبر ١٨٦٩ يوم ميلاد "غاندى"، نذير شؤم لكل آكلى لحوم البشر أحياء، ومغتصبى الأرض والكرامة. وكان بشارة خير ونور للمقهورين الفقراء والمعدمين، حملت به أمه آلاف السنوات، وليس تسعة أشهر. لكنه اختار اليوم الثانى من الشهر العاشر سنة ١٨٦٩، لينهى تأملاته وأحلامه وأمنياته في الرحم، ويبدأ تحقيقها في الهند "الرحم الأكبر"، وطنه ورسالة حياته. 

هل شعرت أم غاندى بأنها بهذا الحمل الفريد، قد جعلت التاريخ البشرى مدينا لها وممتنا لعطائها النادر؟. هل كانت أم غاندى تحس بقلب الأم الذي لا يخطئ بأنها تسير وفي أحشائها نبوءة وثورة؟ . ربما لهذا السبب جاءت ولادتها دون ألم، دون استشارة أطباء النساء والتوليد، ودون قطع الحبل السرى الذي يربطها إلى الأبد بالشعب الهندى وحضارته العريقة وإمكانياته اللا نهائية. 

أما يوم 30 يناير 1948، كان يوما حزينا، مأساويا، في حياة الشعب الهندى، وفي حياة الشعوب المناضلة من أجل السلام، واللا عنف، والسيطرة الأجنبية، والعدل، والحرية.

"غاندى"، الروح العظيم، زعيم الثورة الهندية، ملهم الهند العصيان المدني الشامل، دون قطرة دماء، ونبذ العنف، والتعصبات الدينية التي تفرق وتضعف، منصف طبقة "المنبوذين"، المؤمن بالعدالة بين النساء والرجال، المحارب ضد زواج الأطفال، الذي أحيا الصناعات الحرفية الهندية القديمة، كالنول اليدوى، وجعلها أداة سياسية واقتصادية للتحرر. طالب بمقاطعة البضائع الإنجليزية، دون استخدام السلاح، أو العنف.  

أكثر ما يبهرنى في سيرة غاندى، ما سمى بمسيرة الملح في 12 مارس 1930، في ذلك اليوم خرج غاندى من مدينته أحمد أباد، في ولاية غوجارت سائرا على القدمين إلى قرية داندى في مقاطعة سوارت وقد قطع عهدا ألا يعود إلا بعد تحرير الهند، بدأ السير مع تسعة وسبعين من أتباعه وحين وصل إلى محيط العرب في سوارت كان قد مشى يوما كاملا قاطعا خمسمائة كيلومتر، وعلى طول الطريق تحول الجمع الصغير المؤمن باللا عنف أو العصيان المدني إلى الآلاف من الهنود.

وفي القرى عند الشاطئ توقف غاندى وتوقف معه الزحف الهندى الضخم، توجه إلى تلال الملح القريبة، رفع بعض الملح إلى أعلى ثم تركه يتساقط مصحوبا بالهتافات الرعدية، فقد فهم الهنود رسالة غاندى من هذه الحركة البسيطة. إنه احتجاج غاضب ضد احتكار الملح. 
أدرك غاندى أنه أفضل توحيد للخمسمائة وخمسين مليونا من الهنود، فأفقر الفقراء الذي لا يتناول إلا قطعة من الخبز، يحتاج إلى بعض من الملح، وليس هناك جسم يستطيع الاستغناء عن الملح. 

وكان "غاندى" محقا. فالملح تاريخيا كان سلعة ثمينة. وكان في بعض البلاد، يستبدل به الذهب. وفي الصين، اعتادوا على استخدام عملات، مصنوعة من الملح. وفي عدة دول كما حدث في الهند، فرضت عليه ضرائب باهظة وتم احتكاره لصالح الملوك، والأمراء. ولم يتم إلغاء احتكار الملح، إلا بعد ثورات الشعوب. أو ما أطلق عليها، "ثورات الملح".

هذا الرجل، لم يكد يفرح، ويحتفل بإنجازه، ويحصد ثمرة كفاحه، بإعلان استقلال وطنه في 15 أغسطس 1947، حتى قتلته ثلاث رصاصات غادرة، من شاب هندوسى متعصب.
 

ضرب "غاندى" بالنار، وهو الرجل نحيل الجسد، الذي أشعل النار في بريطانيا، الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس. راحت الإمبراطورية العظمى، وراح الشاب الهندوسى المتعصب القاتل، وبقى "غاندى"، وبقيت "الهند". درس بسيط، تكرره صفحات التاريخ، قديما، وحديثا، هنا، وهناك. 

لكن حلم الإمبراطوريات المستعمرة لا يروح، والقتلة المتعصبون دينيا لا يروحون. وسواء كان حلم استعادة إمبراطورية سياسية، واقتصادية، وعسكرية، أو حلم خلافة إسلامية، فهى ولو بعد ألف عام، ستصبح ذكرى من تراب بفضل الملايين من النساء والرجال، الذين يؤمنون بأن "الحرية" هي الأصل، "الحرية" مثل الموت، قدر محتوم، كأس من حق الجميع أن يعرف مذاقها. 

العالم كله، وأوله من هاجموه، وحاربوه، وسجنوه، وعذبوه، وشوهوا نضاله، يتذكر "غاندى" اليوم، وهو ملقى على الأرض، غارقا في دمائه النبيلة النقية. تلك الدماء التي كانت نذير شؤم، لكل آكلى لحوم البشر أحياء، ومغتصبى الأرض، والكرامة. وكان بشارة خير ونور، للمقهورين، الفقراء، والمعدمين، والنساء المقهورات.

تم اختيار 2 أكتوبر، مولد "غاندى"، ليكون اليوم العالمى لنبذ العنف، تكريما له، وتدعيما لسياسة اللا عنف، والعصيان المدني، والمقاومة السلبية.

وفي 14 مارس 2015، في لندن، في ميدان البرلمان، أزيح الستار عن تمثال "غاندى"، وهذا التاريخ، يوافق مائة عام، حينما عاد "غاندى" إلى الهند، من جنوب إفريقيا، حيث كان يعمل بالمحاماة، لكى يتفرغ للنضال لتحرير بلاده، وكان يبلغ من العمر 46 عاما.
من مقولات "غاندى":
------------------
- أيها الهنود لا تعاملونى كإله.
- لا تحل محل الناس. دعهم يكتشفون قدراتهم بأنفسهم.
- الفقر موجود لأننا نأخذ أكثر من احتياجنا.
- لولا المرح والسخرية لانهزمت في أول معركة.
- لا تيأس. فالبحر لا يتسخ من قطرة. 
- نحن موجودون بسبب النساء فلا تسيئوا معاملتهن. 
من بستان قصائدى. قصيدة القوامون 
*************
بول البعير يشربون. يتوعدون في الميكرفون 
دم الآخرين يهدرون 
شعر اللحية يطيلون 
بالشهوات الخبيثة يتربصون
يسيل لعابهم ويتعفرتون 
ولا يهدأون 
إلا بعد أن 
يتحرشون ويغتصبون 
وبكلمة شفوية واحدة 
يغضبون ويطلقون 
أربع نساء يتزوجون 
يضربون ويتشرطون
يحجبون وينقبون 
في المضاجع يهجرون 
اماء وجوارى ينكحون 
باسم الشرف يذبحون 
بإناث المحارم يزنون 
وما خفى كان أعظم 
ورغم ذلك 
ينصبهم الشرع على النساء 
"قوامون"