رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فيكتور الغريب

للأسف الشديد نجح الرجعيون فى جر الناس إلى قضايا تخدم المتشددين، والمتابع لوسائل التواصل الاجتماعى وبعض الصحف والفضائيات خلال الأسبوع الفائت سيعتقد أن مصر فشلت فى كسب معركة الحداثة، هناك من يعتقد أن ترجمة رواية إلى اللهجة العربية العامية هو مساس بالدين، ويعتقد جناح آخر من الفصيل نفسه أن مشهدًا فى فيلم لبنانى فيه تحريض على الفجور، استدعى رفع قضايا وتقديم استجوابات.

جلست أتأمل القضيتين غير مصدق المستوى الذى وصلنا إليه، فيكتور فهمى ترجم رواية ألبير كامى «الغريب» إلى العامية عن دار نشر صغيرة، هذا ما حدث، المترجم ليس اسمًا كبيرًا فى عالم الترجمة، وليس أول واحد يخوض هذه المغامرة ولن يكون الأخير، وهذا حقه بالطبع، ولا أعتقد أنه مدفوع من متآمرين يتربصون بلغتنا العظيمة، كل ما فى الأمر أن الخواء الذى أصاب قطاعًا ليس بقليل من النخبة جعل من هذا الحدث الصغير غير المؤثر فرصة للتعليق فى الصحف والمواقع عن المؤامرات التى تحاك هنا وهناك، فى الوقت الذى يستقبل فيه معرض القاهرة الدولى للكتاب مئات الترجمات إلى اللغة العربية الفصحى، التى يستطعمها القراء وتعودوا عليها، وأنا شخصيًا أميل إليها وأفضلها، لأنها أولًا تستهدف كل قراء العربية فى كل مكان، وبالتالى هى التى تصنع ذاكرة مشتركة، القضية قديمة وتتجدد فى أوقات يغيب فيها الحديث الجاد عن قضايا ثقافية وسياسية واجتماعية، بدأت سنة ١٨٨٠ فى مصر حين أصدر المستشرق الألمانى ولهلم سبيتا كتابه «قواعد اللغة العامية فى مصر»، وقتها اتهم بعض الكتاب ضلوع القوى الاستعمارية والحملات التبشيرية بالوقوف خلف الموضوع للنيل من لغة القرآن الكريم، رأت الكاتبة الكبيرة بنت الشاطئ أن المؤلف لم يكن ينطلق من منطلق استعمارى، بل كانت تراه متأثرًا بفكر العالم البريطانى داروين صاحب كتاب «أصل الأنواع» ونظريته الموسومة بـ«النشوء والارتقاء» ونقلَ تطبيق هذه النظرية من الكائنات الحية إلى اللغات بصورة عامة، واللغة العربية بصورة خاصة، «إذ عدَّ اللغة بأنها كائن حى ينشأ ويتطور ثم يموت، ويرى أن اللغة العربية الفصحى ميتة سريريًا، وستوارى الثرى عاجلًا أو أجلًا، بسبب استعمار الدولة العثمانية الغازية للوطن العربى، وسياسة التتريك المتبعة لها، ويُطبّق فكرة (الصراع من أجل البقاء) عليها، إذ يرى أن العامية خاضت، وما زالت تخوض المعركة مع الفصحى، وأنها فى طور الانتصار، وأن عملية (الانتخاب الطبيعى) أو (بقاء الأصلح) تنطبق على العامية إذ يراها بأنها الأقوى، وبطبيعة الحال الأقوى هو الأقدر على الصمود بوجه عاديات الزمان»، وفى عام ١٨٩٣ جاء المهندس البريطانى الجنسية، الهندى المولد «ولكوكس السير وليم» الذى كان المشرف على بناء «سد أسوان» فى مصر، ونشر مقالًا فى مجلة «الأزهر»، دعا فيه إلى نبذ العربية الفصحى والأخذ بالعامية، وهو مخطئ لا شك، وكان يعتقد أن سر تخلّف المصريين وعدم استطاعتهم اللحاق بالتطور العلمى والتكنولوجى، هو تمسكهم بالفصحى، ويرى البعض أن إنشاء مجامع اللغة العربية جاء للتصدى لآراء المستشرقين هذه، سلامة موسى مشى خلف هذه الآراء، والطريف أنه كان يدافع عن العامية بمقالات مكتوبة بالفصحى، والإلحاح على الكتابة بالعامية ليس جديدًا فى التأليف والترجمة، كتب توفيق الحكيم مسرحية الصفقة، وكتب مصطفى مشرفة روايته قنطرة الذى كفر، وكتب لويس عوض مذكرات طالب بعثة ١٩٦٥، ومسرحية عطيل لشكسبير عام ١٩٨٩، ثم «حلم ليلة صيف» فى ٢٠١٦، ورسالة الغفران لأبى العلاء المعرى فى ٢٠١٦، وحصلت رواية المولودة المكتوبة بالعامية على جائزة أدبية مرموقة، تعرض لويس عوض لهجوم عنيف من خصومه بسبب مغامرته، رغم إنجازه العظيم فى الفصحى، لا توجد معركة، الجمهور العام هو الحكم، وأعتقد أنه أميل إلى الفصحى فى كل ما هو منقول من ثقافات أخرى، ويوجد إنجاز لا مثيل له حدث ويحدث فى شعر العامية فى مصر، وهو خارج التلاسن، لأننا أمام إبداع لا يقل سموًا عن شعر الفصحى، توجد طوال الوقت جماعات تنظر فى الموضوع وتتعارك مع الآخرين، ولا يوجد رابح، فقط نخسر الوقت الذى ينبغى أن نناقش فيه القضايا التى يخاف الجميع من الحديث فيها.