رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما بين بورسعيد وقنا.. «دينا شحاتة»: نحكي كي لا ننسى (حوار)

بورتريه للكاتبة والروائية
بورتريه للكاتبة والروائية دينا شحاتة

بسرد متفرد موغل في معاني الوحدة.. عودتنا «دينا شحاتة» وعبر ثلاث روايات من تأليفها على أسلوبها الروائي المنمق وقد صدر لها ثلاث روايات هي رواية "غفران 2018 رواية " ثلاثاء آخر" 2021 رواية “رحيل وغربة” 2021.   

إلى جانب ممارستها لمهنة الطب البيطري مارست الكتابة لتلفت انتباه النقاد والإعلام بروايتها الأخيرة "رحيل وغربة".  

«الدسنور»" التقت الكاتبة وكان هذا الحوار..

  • حدثينا عن بداياتك مع الكتابة؟

البداية كانت مع نشأتي.. حيث ولدت في أسرة تفرعت بين بمدينة بورسعيد الساحلية ومدينة قنا الجنوبية، حيث تزوجت جدتي لأبي "حميدة " واستقرت في بورسعيد، وتزوجت جدتي لأمي "فريال" واستقرت في قنا. 

جئت أنا " الجيل الثالث" لاستقر في بورسعيد طوال فترة الدراسة وما أن تبدأ الإجازة الصيفية حتى نرحل إلى قنا في رحلة طويلة بالقطار تستمر لأكثر من 12 ساعة متواصلة كي نبدد الشوق لجدتي لأمي. 

تشعبت بين ثقافتين، ثقافة السواحلية " ثقافة البحر المتوسط" بما تحمله تلك الثقافة من انطلاق وموسيقى السمسمية وتاريخ كبير في التهجير وبين ثقافة الصعيد بما تحمله من حزم وحكايات لجذور ثابتة وموسيقى مختلفة ولهجة مغايرة، حتى ثقافة الأكل متشعبة ما بين أكلات بحرية ومابين طبق " المديدة " هناك طريق طويل صنع ذائقة خاصة مغايرة للشائع.

  • ما بين بورسعيد وقنا.. لأي الجذور تنتمي دينا شحاتة؟

ربما مزيج غريب بينهما، وظهر ذلك الأمر في كتاباتي، في رواية "ثلاثاء آخر" والدة بطل الرواية من أسوان تتغنى بـ" العدّيد" ذلك التراث الجنائزي الصعيدي بينما البطل قضى حياته في القاهرة. 

وفي رواية رحيل وغربة والتي تدور أحداثها عن فترة تهجير النوبيين وقت بناء السد العالي، يتدرج مصير أبطالها ما بين رحيل متعمد كرحيل صالح نحو القاهرة في محاولة للبحث عن ذاته الضائعة في المدينة وما بين رحيل إجباري كرحيل عمران للعمل في السد العالي لإعالة عائلته. 

غير أن الرحيل لا يقتصر على المكان وحسب، وإن ظل أثر المكان بما يمثله من ذكريات هائلة

  • وماذا عن رحيل الشخوص بالجسد والروح في رواياتك وخاصة «رحيل وغربة»؟

رحيل الأشخاص له أثره الأكبر في الذاكرة،  فقد الأحبة غربة كما قال الإمام على بن أبي طالب، وقدرة المرء على نسيان الأحبة تقف عاجزة دوما، الجين الصعيدي داخلي- إن جاز التعبير- يقدس الحزن، ويفسح له الطريق، ويزيل أمامه كل العوائق، يحتضنه كما يحتضن الطير بيضه حتى يفقس بفعل الزمن والوقت والصبر إلى فرح وليد. 

كالبيوت القديمة من ألف عام والنخيل الباسقة لعشرات السنين ورسوم الكعبة والخط النسخ الذي تقشرت بعض حروفه من جملة حج مبرور وذنب مغفور على جدران البيوت، ككل متجذر في الأرض تسرد خيوط حكايات الراحل ببطء وتروي، غرزة من كل فم تصنع جلبابا وعباءة لمن رحل رجلا كان أم إمرأة بعد ثلاثة أيام من الوفاة.

  • هل هناك ثمة اختلاف فيما يخص التناغم والإختلاف في عناوينك الروائية الثلاث؟

 بداية نحن نحكي كي لا ننسى، فالنسيان أمر غير مسموح بحدوثه في طفولتي راقبت في صمت دون مشاركة في الحدث، ككاميرا تصوير تجول أرجاء المكان تسجل الأحداث والأصوات دون إدراك واضح لأبعاد المشهد، لم أكن أعرف ما شكلته تلك الصور داخلي حتى كبرت فصرت أرى الأشياء بتلك العين، أشاهد على شاشة التلفاز عروض استعراضية فلا أهتم كثيرا بحركات الراقصة قد اهتمامي بالنظر في عينيها سعيا لاكتشاف هل هو رقص فرح أم رقص حزن متخفي.

أقرأ نص لأحدهم فأرى رقص كلماته على الورق هل ذلك نص مبهج في ذاته أم أن كاتبه يراقص حروفه كي يخفي جرحا ما. يطربني لحن فأدقق في صوت المغني هل يهتز صوته طربا أم يعدّد على حاله ويشكي أحواله. 

تلمست كيف تصنع الحكايات وكيف تغزل بحب كي تبقي جذوة الذاكرة مشتعلة، وكيف نستمد منها شيئا من القوة، دعابة جدتي المفضلة- رحمها الله- عند حدوث أمر يصعب على المرء احتماله قولها باسمة “ بكرة تبقى حكايات”.

  • كيف استفدت من تباين الظروف بين بيئتي الجنوب والشمال؟

نشأت وسط قوم يصنعون الحكايات وينتظرون حدوثها، يدركون قيمتها في تعزية المرء وتعزية أحبابه لفراقه، موقنون بسحرها في استحضار الحكمة وجلب الصبر وغرس بذور المحبة في عالم قاسي يستمر دون رحمة ويمضي دون وداع يليق بالجحيم الذي تركه الراحل في أفئدة محبيه. 

رأيت كيف يمكن أن يحزن الناس بشكل عميق دون قسوة، حزن من عرف وأدرك فنظر وتأمل فحكي بصدق دون مبالغة وربت على الكتف دون إدعاء، تلك القاعدة الأخيرة أصبحت منهجي نحو الكتابة ومن أجلها ربما كتبت. 

الكتابة ذاكرتي الشخصية التي أسطر فيها كل مالا أريد نسيانه، وأكثر ما أخشاه أن أنسى ذاكرة الحزن تلك التي شكلتني، فأقصى ما أريده أن أخبر أحدهم بقولي " أنا حزينة" فيدرك أن أمر الحزن بالنسبة لي مختلف قليلا في هيئته عن الآخرين.أنا كتبت سرد في العموم يخص رؤيتي لبنية فنية تتطور وتتجلى برؤيتي للفن وكتابة الرواية.

  • كيف تحددين رؤيتك لماهية الأدب أو الفعاليات الإبداعية في المدينة؟

 مع اختيار بورسعيد عاصمة الثقافة المصرية عام 2021، ساهم ذلك في زيادة الفعاليات الثقافية بالمدينة ما بين النشر واللقاءات الثقافية، مع افتتاح معرض الكتاب ببورسعيد وفعالياته الفنية وإعادة افتتاح منفذ الهيئة المصرية العامة للكتاب ببورفؤاد، ولكن هذا الزخم والتجلي الثقافي الإبداعي في العامين الأخيرين لم يمنع أن هناك أزمة نقد في مصر، لكنها أزمة أتفهم أسبابها، فحجم الأعمال المنشورة مؤخرًا يتجاوز قدرة النقاد على القراءة والفرز ومن ثم النقد الذي يحمل رؤية جديدة للعمل وينير عقل الكاتب قبل القارئ.

وربما يلجأ بعض النقاد للرهان على قراءة أعمال لكتّاب مشهود لهم بجودة السرد والأسلوب على أن يضيع وقته في المجازفة لقراءة قلم جديد قد يخيب أمله، لذا الطريق أمام الكاتب المبتدئ طريق وعر وطويل. أما عن رواية " رحيل وغربة " عملي الروائي الثالث فلقد حازت على بعض النقد الجيد وقد سلط عليها بعض الأضواء وأتمنى أن تحظى بقراءة واسعة.

  • هل هناك ثمة تأثر بتيار ما سواء عالمي أو مصري أو عربي كان دافع لكتابتك؟

دائما ما تجذبني الحكاية الممتعة دون نقص في المعنى، أحب أدب “غابرييل غارسيا ماركيز" أحب عوالمه وتلك الواقعية السحرية التي يتماهى فيها المتخيل مع الواقع، كما أندهش دوما من أدب نجيب محفوظ، أقرأ رواياته مرة تلو أخرى فأرى في كل مرة أسرار تتفجر أمامي، وسحر تام في اللغة والسرد والحكي والرمزية.

  • كيف يتحقق الخلاص بالنسبة للكاتب أو المبدع.. وما هو مفهوم الخلاص بالنسبة لكِ؟

الصدق هو خلاص الكاتب، الكتابة الرديئة إن كانت صادقة يمكن تلافي أخطائها فيما بعد، لكن الكتابة الزائفة وإن كانت متقنة لا خلاص يتحقق بها سواء للكاتب أو القارئ على حد سواء. أما عن الاغتراب والوحدة فقدر الكاتب أن يبقى مغتربا، قلبه مشتت بين عوالمه الخاصة وعقله منشغل بتفكيك أحجية الواقع، رؤيته للحياة ذاتية للغاية لأنه يدرك أنه إن فهم ذاته جيدا سيفهم الآخرين بالتبعية وإن فهم سيكتب أبطال رواياته في تلك المساحة الرمادية حيث لا خير مطلق ولا شر دائم.

  • هل ينتهي دور الكاتب بالانتهاء من نصه؟

في اعتقادي إن النص يختار كاتبه، لذا لا يذهب النص من ذهن الكاتب حتى بعد الانتهاء، بل ربما يستدعي نصا آخر قبل رحلة وداعه، وتظل تلك النصوص تستدعى كاتبها حتى ينتبه الكاتب بعد فترة أن كل نصوصه تلتف حول فكرة واحدة أو تساؤل محدد، يحاول أن يستكشفه في كل نص، فتبقي تلك النصوص في نهاية الأمر- إن التزم الكاتب بالصدق – سيرة ذاتية لرؤية الكاتب للعالم ولذاته تحديد.