رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الحركة المباركة» فى «ظلال الدين»

صباح الأربعاء ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢ قامت حركة الضباط، وسمع المصريون فى البداية صوتًا يتلو البيان الأول للجيش بعربية غير منضبطة، ليسجله بصوته من بعد وبفصحى سليمة البكباشى محمد أنور السادات، ويعلن فيه أن الجيش قام بحركة قام فيها بتطهير نفسه وتولى أمره رجال من داخله يثق فى قدرتهم وخلقهم ووطنيتهم.

التعريض بمسألة المفاسد الأخلاقية لفاروق ورجاله كان حاضرًا- ضمن أمور أخرى- داخل البيان الأول للثورة، وكان الناس يفهمون ما ترمى إليه من إشارات إلى الملك الذى كان حتى لحظة إذاعة البيان «السابعة والنصف صباح يوم الأربعاء ٢٣ يوليو» على رأس الحكم بالبلاد. تناول البيان الفترة الأخيرة العصيبة التى عاشتها مصر بسبب «الرشوة والفساد» وتولى أمرها «إما جاهل أو فاسد» وتولى أمر الجيش رجال نثق فى «خلقهم». 

وفى البيان الثانى الذى أُذيع بعد الأول بنحو ساعة- كما يسجل عبدالرحمن الرافعى فى كتابه عن ثورة يوليو- كان هناك حديث عن «النهضة المباركة» التى قام بها الجيش التى سيسجلها التاريخ لهذه الأمة. ويبدو أن عبارة «النهضة المباركة» بما تحمله من ظلال دينية راقت للقائمين على الأمر حينذاك، فأصبحت حركة الضباط توصف فى ذلك الوقت بـ«الحركة المباركة». يقول محمد نجيب فى مذكراته «كنت رئيسًا لمصر»: «عندما أردنا أن نخاطب الشعب وأن نكسبه إلى صفنا، أو على الأقل نجعله لا يقف ضدنا استخدمنا لفظ الحركة. وعندما أحسسنا أن الجماهير تؤيدنا وتشجعنا وتهتف بحياتنا، أضفنا لكلمة الحركة صفة المباركة».

وصف الحركة المباركة ومن قبله النهضة المباركة، كانا يحملان ظلالًا دينية واضحة، وعلينا ألا نهمل أن جانبًا من التأييد الشعبى لما حدث فى يوليو ١٩٥٢ ارتبط بجماعة الإخوان وأنصارها، فالجماعة- دون غيرها من القوى السياسية فى ذلك الوقت- كانت على علم بموعد قيام الحركة، واتفق الضباط مع أعضائها على تأمين الشارع وقطع الطريق أمام أى تحرك من جانب القوات الإنجليزية فى قاعدة القنال. 

لم يكن من المنطقى أن يطلق على ما حدث وصف ثورة، لأنها علميًا لم تكن كذلك، كما أن ثمة بُعدًا دينيًا يبدو أن بعض الضباط الأحرار تنبهوا إليه فنأوا عن استخدام هذا الوصف فى البداية، وتركوه يأتى على لسان بعض الكتّاب والمفكرين. فلفظ «ثورة» من الألفاظ سيئة السمعة فى أدبيات المذهب السنى، وهى أدبيات يتبناها فريق من المسلمين- كما يذهب محمد عمارة فى كتابه «الإسلام والثورة»- ممن ينكرون أن يكون الإسلام دولة ثورة، أو دولة ثورية، لكنهم يقبلون بها إذا وقعت أو نزلت، ويعيشون فى ظل سلطتها وسلطانها، باعتبارها واقعة أو نازلة يسلم بها المؤمنون الذين امتحنوا بها ولهم أجر الصبر على معايشتها والعيش فى كنفها.

فالموروث السنى يتبنى موقف الإمام الحسن البصرى- أحد كبار الأئمة التابعين- من تحريم الثورة على الأمير أو الوالى حتى ولو كان ظالمًا. ويحكى أن العلماء فزعوا إليه- أيام الحجاج بن يوسف الثقفى- وقالوا له: ماذا تفعل.. وأنت ترى الحجاج يسفك دماء المسلمين دون رحمة أو شفقة، ويقتل أعداءه دون قضاء أو محاكمة، وينفق ثروات المسلمين فيما يغضب الله؟. فقال لهم: «لا تقاتلوا إلا إذا أعلن الكفر بالله، وأنكر أصلًا من أصول الدين، وإن تكن أفعاله الآن عقوبة من الله، فما أنتم برادى عقوبة الله بأسيافكم. وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين». ومن العجيب أن بعض المصريين الذين يعلمون من تاريخهم ثورات آبائهم وأجدادهم ضد مظالم المماليك والعثمانيين، وضد الإنجليز، ويؤمنون بمبادئ وأفكار ثورة ١٩١٩ التى تمثل واحدة من أبرز الثورات الشعبية، كانوا يرون أن الخروج على ولى الأمر من الأمور المنهى عنها شرعًا، وأن من يفعل ذلك هو خارجى يستوجب تطبيق حد البغى عليه.

فى كل الأحوال اندفع أغلب أفراد النخبة الموروثة عن العصر الملكى إلى إعلان انحيازهم لضباط الثورة، بل بادر بعضهم إلى وصف «الحركة المباركة» التى قام بها الضباط وأطاحوا من خلالها بالملك بـ«الثورة»!، لينتقلوا بالحركة المباركة من مربع الحركات الإصلاحية إلى مربع الثورة الكاملة. وثمة خلاف ما بين المؤرخين حول من كان له السبق فى إطلاق وصف «ثورة» عليها. البعض يقول إن الدكتور طه حسين هو الذى فعلها والبعض الآخر يقول إن سيد قطب هو الذى بادر إلى إطلاق هذا الوصف عليها. وفريق ثالث يقول إنه محمد فريد أبوحديد. والأرجح أن العميد هو الذى فعل كما يؤكد الأستاذ مصطفى عبدالغنى فى كتابه عن «طه حسين وثورة يوليو». 

وتقول أحداث هذه الفترة إن جمال عبدالناصر وظّف واحدًا من كبار مفكرى الإخوان «سيد قطب» كورقة من الأوراق التى يصح أن يخاطب الضباط بها المصريين، مستغلًا قدراته الخطابية وحماسه الجارف للثورة، وما تمتع به من حدية فى التفكير وقدرة على نسج الأحكام المطلقة وطرح الأفكار الجريئة التى كانت تخدم فى ذلك الوقت بعض التوجهات لدى رجال الثورة. ويبدو أن عبدالناصر ورفاقه اكتفوا باستخدام الإخوان كورقة دعم شعبى لحظة قيام الثورة، لكن النظرة إلى الجماعة اختلفت بعد نجاحهم فى طرد الملك، حين أصبح الرهان على استمرار الجماعة كشريك فى الثورة بما يترتب على ذلك من شراكة فى السلطة أمرًا عليه محاذير، ويثير فى نفوسهم قدرًا لا بأس به من التوجس. وأحداث التاريخ تقول إن الجماعة كانت طامحة إلى تقاسم السلطة مع الضباط تمهيدًا لابتلاعها كاملة فيما بعد، لكن الضباط كانوا أسرع بخطوة فحسموا الأمر لصالحهم.