رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دريد لحام فى جزيرة جرجا

فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى قدم الممثل العربى الكبير دريد لحام واحدًا من أهم أفلامه السينمائية اسمه «الحدود».. كانت فكرة الفيلم تدور حول رجل عربى فى بلد عربى اضطر للسفر إلى بلد عربى آخر فضاعت منه «هويته».. باسبور السفر يعنى.. فلم يستطع الذهاب إلى البلد التالى، ولم يرد العودة إلى بلده فبنى عشة على الحدود مع زوجته.

وذهب العالم كله إليه بعد أن عرف قصته الغريبة فانتفض بنو وطنه يشجبون وينددون بأهل البلد الآخر.. وحصل العكس فى تليفزيونات البلد الآخر.. ثم صار كل منهما يدعو إلى الوحدة وإلى أننا أبناء وطن واحد ولا مجال للحدود بيننا.. فصدق الرجل وزوجته وهَدْ العشة وذهب يجمع فراريجه وبطاته وحاجيات عشته، ويستقل سيارته فيما يودعه ضباط حدود البلد الأول لكنه عند المعبر اكتشف أن لا شىء تغير، وأنه يحتاج مجددًا إلى باسبور جديد فعاد إلى موقعه على الحدود.. وانتهى الفيلم ولم تنته الحدود.

ستقولون ومالك أنت الآن ودريد لحام وأنت تكتب عن حياة كريمة والأحلام التى وسعت مجالها فى أفئدة وقولب البشر.. سأقول لكم هذا بالتحديد ما أعنيه.. وقصة دريد لحام تحدث فى صعيد مصر وريف مصر، وربما فى كل محافظاتنا بتصرف بسيط.. طب إيه اللى جاب القلعة عند البحر!! أقول لسيادتك.

لفؤاد حداد شاعرنا الراحل الرائع قصيدة تشبهه.. رائعة أيضًا وعميقة أيضًا وحادة مثل أنفه العربى المصرى الشامخ تحكى عن البيروقراطية فى بلادنا، واسمها الاستمارة راكبه الحمارة.

قصيدة الاستمارة كتبها فؤاد حداد فى ستينيات القرن الماضى، وما زالت «راكبه الحمارة» حتى أيامنا هذه.

وسواء كان المواطن فؤاد حداد أو المواطن دريد لحام، فكلاهما عاش نفس البيروقراطية التى عاشها أهل «الجزيرة الوسطى» فى مدينة جرجا.. عاصمة الصعيد القديمة ولا تزال.

وبما أنها مشكلة مزمنة.. فقد أهلنا هناك أن يكون هناك حل.. حتى جاءت مبادرة حياة كريمة وحركت الأحلام فى نفوس الناس، فتذكروا أنهم مواطنون، قطار هذه الحياة الكريمة يمر مسرعًا من أمام بيوتهم ويخشون ألا يتوقف عندهم.. ليس هذا فقط بل إنهم يشاهدون بأعينهم كل حصون وقلاع البيروقراطية المصرية العتيقة تتساقط والبناء يرتفع فى أيام قليلة.

تعود حكاية جزيرة جرجا الوسطى إلى عشرات السنين، فبعض أبناء الجزيرة سنه تفوق المائة.. لا أحد على التقريب يعرف متى ظهرت هذه البقعة فى قلب النيل تحديدًا.. هم فقط يعرفون أنه لا وجود لهم على الخريطة.. أى خريطة، رغم أن عددهم يزيد على الثلاثين ألفًا.. ولهم أصوات انتخابية.. وبطاقات رقم قومى.

هم مصريون يعيشون على أرض مصرية فى جزيرة وسط النيل تبلغ مساحة أراضى أملاك الدولة فيها ٥٦٥ فدانًا كاملة من أجود الأراضى الزراعية فى العالم..

هؤلاء البشر يتبعون إداريًا.. فى واقعة تكاد تكون الأولى من نوعها.. أربعة مجالس محلية.. مجلس قروى البربا.. مجلس قروى العوامر.. مدينة جرجا.. مدينة دار السلام.. وبسبب هذه التبعية الغريبة فكل جهة تلقى بمسئولية هؤلاء البشر على الأخرى.

هؤلاء البشر لا توجد لديهم أى خدمات من أى نوع.. لا مدارس.. لا مستشفيات لا وجود لمكتب بريد أو شهر عقارى أو مركز شباب.

كل ما يحتاجه أهل الجزيرة يذهبون إلى مدينة جرجا أو دار السلام لقضائه.. وفى كل موسم انتخابى يعِدهم المرشحون بقضاء حوائجهم وإنهاء معاناتهم.. لكن كل شىء ينتهى عقب إعلان النتيجة، فينتظرون خمس سنوات جديدة، ربما يحدث جديد لكن لا شىء يحدث.

أكثر من محافظ جاء إلى سوهاج من أيام الوزير حسن الألفى- الذى كان محافظًا آنذاك- وذهب بالرئيس مبارك إلى مدينة جرجا لافتتاح مصنع السكر الموجود على قرب أمتار من الجزيرة.. أيامها عرف الرجل بالمشكلة ووعد بحلها فورًا.. لكنه لم يستطع.. ذلك أن الرئيس الأسبق اختاره بعد أيام ليصبح محافظًا لأسيوط.. وجاء محافظ جديد ذهبت إليه عشرات الشكاوى ورد الرجل بعشرات الوعود.. لكنه ظل مدته فى سوهاج ورحل دون أن يحدث جديد.

وهكذا من محافظ إلى آخر.. ولا أحد يفعل شيئًا حقيقيًا على الأرض.. أهل الجزيرة الذين تذكرتهم الحكومة مرة واحدة يوم أن غرق عشرات التلاميذ فى «معدية» تنقلهم إلى جرجا، فأنشأت لهم مدرسة ابتدائية، هى العلامة الوحيدة بالجزيرة على أنها تتبع الحكومة فى مصر.. يتعشمون اليوم فى مبادرة الرئيس.. وهذه رسالة مباشرة منهم إلى مؤسسة حياة كريمة وكل القائمين عليها: «لقد نسيتمونا فى المرحلة الأولى التى تنفذ ١٦٧١ مشروعًا فى سبعة مراكز و١٨١ قرية بسوهاج بإجمالى استثمارات ٤٥ مليار جنيه.. فلا تنسونا فى المرحلة الثانية».. أهل الجزيرة لا يحلمون الآن بتحديد تبعيتهم فقط إما لجرجا أو لدار السلام.. بل يحلمون بمدرسة ومسجد ومكتب بريد ومركز شباب ويحلمون بمهندس يجىء إلى جزيرتهم ليشاهدها على الطبيعة، فهى تصلح لأن تكون مدينة عالمية فى وسط النيل، فهل يذهب اللواء طارق الفقى إلى هناك.. هل يذهب المهندس صلاح المازنى، مسئول حياة كريمة، ومنزله لا يبعد سوى ربع ساعة عن تلك الجزيرة التى قد تصبح مدينة للأحلام إذا ما أرادوا؟.. هذه عينة من أحلام الناس.. هم لا يحلمون كما صلاح جاهين بأوبرا على الترعة.. فهم يرقصون ألمًا على النيل منذ سنوات بعيدة.. هم يحلمون أحلامًا تصلح الآن للتداول.. فهل يحدث ذلك قريبًا؟!