رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل تضمن درجة الدكتوراه محو الأمية؟

ظل مفهوم الأمية لعقود طويلة محصورًا فى وصم الجاهل بالقراءة والكتابة، ولم يتطوع أحد من الأكاديميين بوضع التعريف الحقيقى للأمية حتى نهاية العقد الخامس من الألفية الفائتة، وتحديدًا فى عام ١٩٥٨ عندما وضعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو» تعريفًا للأميّة على النحو الآتى: «يُعدّ الشخص أميًا عندما يعجز عن فهم قراءة وكتابة عبارة قصيرة وبسيطة تتعلّق بالحياة اليومية»، حتى إن برامج التنمية التى وضعتها «اليونسكو» أصيبت بالخيبة، ولم تفرز سوى الفشل بسبب التقيد بذلك التعريف عندما رصدت أموالًا وجهودًا وأوقاتًا هائلة لمحو الأمية فى الدول النامية، وكانت الأمية المقصودة وقتئذ هى جهل القراءة والكتابة، واتضح لاحقًا أن مفهوم الأمية أبعد بكثير من مجرد جهل القراءة والكتابة.

ظل تعريف الأمية قائمًا على هذا النحو حتى العقدين الماضيين، عندما حدث التحول العالمى فى تطبيقات التقنية كإحدى مهارات البحث العلمى والعمل المكتبى والتواصل البشرى والتحصيل المعرفى، حتى تم تغيير التعريف من جديد وفهم الأمية بأنها عجز الإنسان عن القيام بالعديد من المهارات الخاصة بالقراءة والكتابة كمبدأ أساسى، وما يتبع ذلك من عجز عن فهم المتاح من التقنية وكيفية تطبيقها، بل اتسع التعريف حتى شمل العجز عن اللحاق بالمستحدث التقنى ولغات التواصل المجتمعى، وطبقًا لذلك تم رصد أنواع مختلفة من الأمية:

١- الأميّة الهجائية: وهى جهل الشخص بأبجدية وهجائية اللغة الخاصة به، التى تحول بينه وبين تلقى المزيد من المعارف أو تحديث رصيده المعلوماتى، ولم يقف تعريف الأمية الهجائية عند حد الجهل بالقراءة والكتابة، بل يمتد التعريف إلى عدم قدرة المتعلم على استخدام اللغة بالشكل الصحيح، وفهم ضوابط الكتابة والتعبير، وكذلك الوعى بمعنى المترادفات وعلامات الضبط اللغوى، والتمتع بالحد الأدنى من مهارات اللغة التى تضمن صياغة صحيحة واحترام علامات الترقيم والوقف والإعراب والتشكيل. لا شك أن مهارة التواصل عبر اللغة المكتوبة والمنطوقة تتوقف بشكل أساسى على مهارات الصياغة الصحيحة فى التعبير بدقة عن الرسالة المقدمة لمتلقيها، وكذلك مهارة الفهم والتفرقة بين الفاعل والمفعول به، ولذلك تخصص الصحف ودور النشر أفرادًا أو فرقًا للتدقيق اللغوى قبل إصدار الكتاب أو الصحيفة. 

٢- الأميّة الرقمية: وهى الجهل بمفردات التعامل التقنى وعدم القدرة على قيادة الحاسوب أو التحكم فى الخصائص والإمكانات المتاحة فى تطبيقات الحاسوب ومعه بالطبع كل الأجهزة الرقمية. اتسعت رقعة الأمية الرقمية لتشمل عجز الفرد عن التواصل الإلكترونى والولوج إلى مواقع التواصل وتأسيس الحساب الشخصى، ويشمل هذا العجز أيًا من المهارتين الأساسيتين اللازمتين لنيل هذه الخدمات، وهما إجادة اللغة الإنجليزية كحد أدنى من اللغات العالمية التى تمكن الشخص من التواصل مع الغير، وبالطبع إجادة قيادة الحاسوب.

٣- الأميّة الوظيفية: وهى عدم قدرة الشخص على فهم المبادئ والأساسيات الخاصة بطبيعة العمل والوظيفة التى يشغلها، وتتضمن الأمية فى هذا السياق كل جوانب العجز عن فهم مفردات الأمن والسلامة والعلامات الإرشادية والحقوق المقررة له، وكذلك الواجبات المنوط به تحقيقها.

٤- الأميّة الثقافية: ويقصد بها عجز الشخص عن الحصول على المعلومات المختلفة وتلقى المعارف الحياتية، مثل المستجدات التشريعية والمحددات الأخلاقية، وتشمل أيضًا فقر الثقافة العامة التى تجعله فى حالة تواصل مع المجتمع، وقادرًا على الاستمتاع بما يقدمه العلم من منافع، مثل مواكبة تطورات وباء الكورونا، وفهم معنى التحور وإدراك معنى الوقاية وقبول المحاذير.

هل يتطلب الأمر إلمام الشخص بكل المهارات والخبرات لتجنب وسم الأمى؟ 

ولتبسيط الفكرة من خلال ضرب الأمثلة، هل يجب أن يكون الشخص المؤهل بدرجات تعليمية فى القانون ملمًا بجوانب التثقيف الدينى أو المعلومات الطبية، وهل يلزم الطبيب بأن يكون ملمًا بالفقه القانونى مثلًا؟

فى الحقيقة، تم تقسيم الوجوب المعرفى إلى شقين أساسيين، وهما الإلزام المعرفى الموازى للتحصيل العلمى والتعليمى، مثل الإلمام بأخلاقيات المهنة والضوابط المحددة للأداء فى كل ما يتعلق بالمهنة أو الحرفة، وفهم كل المستجدات المتعلقة بالمهنة؛ إذ لا يعقل أن يجهل الطبيب لائحة حقوق المرضى والفرق بين التقصير المهنى والخطأ المهنى، ولا يسمح للتربوى بتجاهل العلم بالمحددات والمحاذير التربوية. أما الوجوب المعرفى العام وهو غير المتعلق بمهنة محددة فيقصد به كل المعارف التى يجب أن يدركها أى شخص، حتى إن كانت خارج نطاق مهنته، مثل قوانين المرور لقائدى السيارات من غير المهنيين، فليس من المقبول أن تجهل أن السير العكسى بالسيارة يعد مخالفة تخضعك للعقوبة، ولن يقبل منك ادعاء جهلك بتعليمات الدولة بعدم دخول الأماكن العامة بلا كمامة، كما هو مقرر فى زمن الأوبئة.

هل للذكاء الاجتماعى حصة فى الحرب ضد الأمية؟

لا يمكن فى معرض الحديث عن الأمية أن نغفل الحديث عن الذكاء الاجتماعى أو الذكاء العاطفى، فأى منهما ليس ضربًا من الرفاهية فى سياق الحديث عن الأمية، لأن هذه القيم لا يصح أن تترك هكذا ببساطة تحت مظلة المهارات الاختيارية للشخص فيؤتيها من يرغب ويغفلها من لا يقنع. 

الذكاء الاجتماعى ليس موهبة كلامية ولا هو لباقة أو إتيكيت الحديث مع الآخرين كما يظن البعض، بل هو حنكة ومهارة التواصل وفق الضوابط التى تحترم الإنسانية وتنأى بالحوار الإنسانى عن التعصب أو التنمر، وتضمن أدب التعامل وفق ما تقره الأعراف والمواثيق الحقوقية سواء على المستوى الشخصى أو المهنى.