رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل الفقر قسمة ربانية أم حصاد بشرى؟

من أكثر العبارات شهرة حول الفقر كانت وصف «الفقر والجهل والمرض»، وهى عبارة استُخدمت بشكل موسع فى الخطابين السياسى والجماهيرى فى العهد الناصرى، وهذا المصطلح يرسخ لربط الثلاثى القمىء بأسباب التدهور الذى أصاب الحياة الاجتماعية فى مصر، الذى كان أهم أسباب قيام ثورة يوليو ١٩٥٢.

سنتحدث عن الفقر كعنصر يشوه الرخاء المجتمعى، وهو الأثر الممتد للمعاصرة ولا يمكن إنكاره.

لم تتفق المنظمات الأممية على رقم للمورد المالى يضع شريحة الفقراء تحت ذاك الرقم، ولكن حددت التقديرات الدولية أن حد الكفاف فى الموارد المالية هو دولار واحد للفرد يوميًا.

الفقر هو حالة من العوز تصيب أيًا من عناصر الحياة للفرد أو تابعيه، وقد يكون الغذاء أو التداوى أو التعليم أو الأمن إلى بقية مفردات الحياة، وهنا يفرض الواقع تساؤلًا حول سببية هذا العوز، أهو قسمة من الله، على اعتبار أن العوز ينشأ عن محدودية الرزق والكسب، أم أنه إخفاق فى تسويق الفقير قدراته التى يتكسب منها أو جراء هشاشة خبرته وعدم قدرته على المنافسة فى سوق العمل؟

إن محاولة تأويل الفقر وفهم السببية على أنها ضمن المقدر الربانى وأنها قلة الكسب هى ذاتها قلة الرزق سوف يجعل مناقشة قضايا الفقر ومحاولات إصلاحه ضربًا من العبث، كون السببية قرارًا إلهيًا لا يفلح أى من البشر فى علاجه أو تغييره، وعلى هذا فلتقف جهود التنمية فى الدول لأنه لم يرتض الرخاء للفئة الفقيرة من العباد، وعلى الجانب الآخر لو أعزينا الفقر للجهد البشرى وقلة حيلة الفقير فى القدرة على الكسب فسوف يصبح لزامًا نفى أى معنى للرزق الإلهى وهو بالطبع أمر لا يتفق مع مفهوم الإيمان بالله.

من أجل حل هذه المعضلة الفكرية، تجب التفرقة بين مفهومى الرزق والمكسب، فالرزق هو مقدر إلهى تكرر ذكره فى الكتاب الكريم أكثر من مائة مرة، وكلها جاءت مبنية للمجهول والفاعل لفظ الجلالة «الله»، بينما لفظ الكسب ومشتقاته اللغوية تكرر بضعًا وستين مرة فى الكتاب الكريم، وكلها جاءت مسندة إلى أيديهم، أى العباد فتجد «بما كسبوا» و«بما كسبت أيديهم». إذن هناك فرق بين الرزق وهو المقدر الربانى والكسب وهو التحصيل البشرى.

بهذا التبسيط الفقهى يمكن تحرير سببية الفقر من كونها عوزًا بفعل تقتير ربانى، وإسناد الفقر برمته إلى قلة حيلة العبد الفقير فى التحصيل والكسب، ومن ثم يصبح ممكنًا تحرى السببية والسعى إلى إصلاح أحوال الفقير.

الفرق بين الفقر والفقير:

على الرغم من وحدة المصدر اللغوى للمسلمين، فإن الفقر حالة أو مرض يصيب الفرد ليصبح فقيرًا تمامًا مثل المرض الذى يصيبه فيصبح مريضًا، وهنا يجب الانتباه إلى أن استراتيجية الإصلاح والعلاج التى تتخذ لعلاج الفقر تختلف كليًا عن سياسة إصلاح أحوال الفقير، لذا يجب التأكد بوضوح من السياسة المزمع اتباعها فى خطط الدولة للتنمية والقضاء على الفقر وتوابعه.

الفقر هو حصيلة التراخى التراكمى فى برامج التنمية، وعودة لمثلث «الفقر والجهل والمرض»، يتضح أن الفقر ليس ثالث المعادلة، بل هو نتاج الجهل والمرض، وعليه فإن إصلاح الحالة التعليمية والارتقاء بسياسات الخدمة الصحية، سواء بالوقاية أو التداوى هما الضمانة بالقضاء على الفقر. فى الحقيقة، عبر العقود السبعة الماضية لم يفلح أى من السياسات فى القضاء على الفقر؛ لأن الجهود كانت تنصب على ضخ المساعدات والمنح والعلاوات والدعم السلعى بزعم علاج الفقر، ولكن لم تفلح سياسات الدعم الغذائى والتعليمى والصحى فى إنهاء حالة الفقر ومعالجة حالة العوز ونضب الموارد، بل كانت مدعاة لمزيد من التراخى والتواكل، وغاب عن أذهان من تلقوا الدعم حقيقة الأسعار والقدرة الشرائية للجنيه، وأصبحت محاولات تعويم الجنيه المصرى ضربًا من المخاطرة، وليس خفيًا أن محاولة الرئيس السادات رفع الدعم عن بعض السلع قد قوبلت باستياء جماهيرى وعادت الأوضاع إلى المربع صفر؛ ليستمر تقديم الدولة الدعم، وبات أحد حقوق المواطن.

رفع الدعم يشبه فطام الصغير من الرضاعة وهى- أى الرضاعة- أمر سهل المنال بالنسبة للطفل ولا يرغب فى التخلص من هذا اليسر. 

كيف هو العلاج إذن؟

يتطلب التخلص من الفقر وضع بعض المفاهيم فى سياقها وفهمها على النحو الصحيح، وتشير تجارب الأمم فى هذا الشأن إلى التعامل مع مصطلح الراتب أو المكافأة على حقيقته، وكذلك مصطلح الأجر، ولعل توضيح الفرق بين الاصطلاحين يكفى لمعالجة الكثير من الإشكاليات التى يعانى منها العامل. 

الراتب أو المكافأة الشهرية هو المقابل المادى المقرر للوظيفة وفق النظام المدنى بالدولة، الذى يضع مخصصًا ماليًا لشاغل الوظيفة بصرف النظر عن إنتاجيته، وهو فى العادة رقم ليس مغريًا ولا يسد حاجة العامل، خاصة بعد الاستقطاعات التأمينية من المقرر الأساسى، وفى المقابل تجد أن الأجر هو المبلغ الذى يتقاضاه العامل لقاء خبرته وندرة ما يقوم به، ولنأخذ لذلك مثالًا وظيفة طبيب جراحة قلب فى مستشفى حكومى على درجة مالية قوامها راتب شهرى ٤٠٠٠ جنيه لأى طبيب يشغل هذا المنصب، أما جراح القلب الشهير الذى يقدم خبرته فى سوق الخدمة الحرة، فقد يبلغ سعر أجره بالساعة الإنتاجية قدر المرتب المذكور.

إذن، التدريب والتحضير الذكى للمنافسة فى سوق العمل هما الضمانة للرخاء والقضاء على الفقر.