رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جبروت الرأى العام وخطورة العقل الجمعى

المتأمل للجدل الفكرى السائد فى وسائط التواصل الاجتماعى حول أى من القضايا المجتمعية أو القضايا الفردية التى تخص الأفراد والمشاهير يدرك أن الرأى العام ما هو إلا حشد جماهيرى ذاتى البناء يبدأ بخبر أو رأى، ومن بعده تنطلق الآراء ويتضاعف نموها فيما يشبه التفاعل النووى المتسلسل.

فى العقود السابقة، وقبل انتشار التواصل الإلكترونى، كانت الصحافة الورقية تُعنى بنشر الخبر حول جريمة أو حدث أو حادث أو نقل تصريح حول فنان أو عمل سينمائى، وينتهى دور الصحيفة عند توصيل الخبر كونها صحافة خبر. قلة من الصحف هى التى كانت تضيف تحليلًا صحفيًا للخبر، وهو الشق الآخر من وظيفة الصحافة، وعادة ما يكون إطلاق المقالات التحليلية حكرًا على الأخبار السياسية والمجتمعية.

كان العقل الجمعى فى هذه الحقبة يتلقى الخبر الصحفى، ويظل الخبر على الألسنة لقرابة أيام معدودة على نطاق ضيق غالبًا لا يتجاوز نطاق الأسر والزملاء فى بيئة العمل. إذن كانت المحدودية هى السمة السائدة فى شيوع الخبر، ولطالما كانت المحدودية سياجًا ضد انتشار الخبر على ألسنة الرأى العام، ومن ثم كانت الحوادث تفقد بريقها وزهوتها بعد أيام قليلة.

مع شيوع التواصل الإلكترونى ومنابر التواصل وإمكانية نقل الأحداث المصورة عبر مقاطع الفيديو، وهى تقنية لا تكلف شيئًا، لكنها تنسخ عدد شهود الحدث بمنوال عددى متصاعد بفضل خاصية النشر لعدد غير محدود من الأصدقاء- يذهب خبراء الإعلام وعلم الاجتماع إلى تعريف الرأى العام بأنه ما يتم تداوله من أفكار أو أخبار بين العامة بصرف النظر عن صحة الفكرة أو دقتها أو مغزاها، فتجد أن الجرائم تكتسب جماهير مؤيدة لأحد أطراف الجريمة، مثل الرجل قاتل ابنته فى قضية تمت صياغتها وتعريفها تحت اسم قضية شرف، وفى ذات الوقت يتبنى فريق آخر من المجتمع تعاطفًا مع الضحية، وتتوالى ضخامة الأعداد المؤيدة أو الداعمة لكل جبهة حتى تفقد الجريمة كل معالمها الحقيقية، وقد يقوم الرأى العام بإعادة صياغة سيناريو الحدث بما يتفق مع الرأى الذى يشارك به، وهنا يتدخل علماء النفس والسلوك وخبراء علم الاجتماع لاستدعاء قوة أخرى تشارك فى بناء الخبر وهى «العقل الجمعى».

ما هو العقل الجمعى وما سر قوته؟

العقل الجمعى هو توحد نفسى بين أفراد تكتل مجتمعى يربطهم مستوى ثقافى متجانس أو مصالح مشتركة أو تجمعهم مكاسب فئوية متشابهة فيخرج من بينهم الإجماع على حكم واحد فى قضية أو شأن ما، إلّا أن بعض الأكاديميين يذهب إلى وسم هذا المسمى بالعوار، والسند فى ذلك هو أن لفظ العقل من الناحية المنطقية والتطبيقية هو قدرة ذهنية تخص الفرد الواحد، ومن ثم لا يمكن الإقرار بصفة العقل للمجموع البشرى، ولكن بصرف النظر عن قبول المصطلح أو رفضه، لا يمكن إنكار حالة التوحد الذهنى بين الجماهير تجاه قضية وصلت إليهم عبر الرأى العام. إذن العقل الجمعى هو ملعب ومحل صناعة الرأى العام.

ويظل التساؤل قائمًا حول سر قوة العقل الجمعى، وهنا يطل علينا الخبراء من جديد بأن العقل الجمعى هو قدرة ذهنية مفردة التكوين، لكن ما إن يتم نسخها تصبح بالملايين، وبالتالى تصبح القوة النهائية هى قوة التكتل البشرى حول الفكرة وهى المجموع الجبرى لأعداد المشاركين بها، بينما هناك الوهن العقلى؛ لأن العقل الذى يحرك الجماهير واحد ومحدود.

لم تسلم ساحات التقاضى من الآثار الضاغطة للرأى العام وهو التدخل بالرأى فى القضايا التى لم يصدر فيها القضاء أحكامه بعد، وقد يصل التدخل إلى حد اقتراح أحكام عقابية على الطرف الذى يعاديه، بل ويقترح آلية عقاب لا وجود لها بالنصوص القانونية، مثل: «يجب إعدامه فى ميدان عام» كنوع من التشفى وإطلاق الغليل حبيس الصدور. من هنا، اعتمدت الكوادر القضائية نهجًا جديدًا وهو «حظر النشر» فى بعض القضايا التى يجرى النظر فيها فى ساحات القضاء أو حتى فى مراحلها المبكرة أثناء التحريات، أو إبان سريان تحقيقات النيابة العامة، وليس خفيًا أن السبب فى حظر النشر هو قطع السبل أمام الآراء غير المتخصصة بطرح أحكام عاطفية يحكمها الهوى وحماية لفريق البشر من القضاة من الميل العاطفى قبيل إصدار الأحكام.

لم يُقصر المشرع المصرى فى تدبير بعض الأحكام الرادعة ضد أى شخص يتعرض بالتشهير لأى من أطراف الأحداث التى يتداولها الناس ضمن هوجة الرأى العام، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعى، وبذات الوقت قام المشرع أيضًا بإدراج حقوق الملكية الفكرية ضمن المهام المنوط بالقانون حمايتها، ذلك أن الرأى العام قادر على سلب أصحاب الملكيات الفكرية بعض جهودهم وتشييع استخدامها، مثل الماركات والعلامات التجارية التى باتت إعلاناتها منتشرة على صفحات الإنترنت تروج منتجاتها وتستخدم الأسماء والعلامات التجارية المسجلة لماركات ترسخت شهرتها.

ويتبقى أخطر المحاور فى جوانب الإساءة من قبل العقل الجمعى والرأى العام، وهو ضمن إطار حرية الرأى، والذى لم يتم وضع محددات له، فلا مفهوم الحرية بات واضحًا ولا معنى الرأى بات معروفًا، فتتم الإساءة لبعض الرموز من الشخصيات العادية أو الشخصيات الاعتبارية، وهنا تدخل المشرع ببعض النصوص التى تعاقب المتجاوز، وتدرس السلطة التشريعية إمكانية تشريع قوانين لحماية الرموز المجتمعية، ولكن غياب التعريف الدقيق لمعنى الرمز المجتمعى هو المعضلة حتى اللحظة.