رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

غدوة

الإيمان بالغد كان عنوانًا لفيلم التونسي ظافر العابدين، الذي سجنته وسامته لسنوات في مسلسلات الصابون وبعض الأعمال الدرامية المصرية الجيدة، مثل مسلسل "ليالي أوجيني"، والذي أدخله قلوب مرتادي الشاشة الفضية في مصر، أما عيناه وروحه فقد تعلقتا بالشاشة الذهبية وتاقت لها حتى وصلت إليها عن جدارة واستحقاق بل ودراسة.
فظافر العابدين لمن لا يعرف قد درس السينما والإخراج في المملكة المتحدة وصنع أول أفلامه عن الأمل في الغد الأفضل لجيل قادم في تونس كان مجسدًا في شخصية ابنه الطفل التونسي الذي أنضجته الأحداث، إذ نشأ في ظل أجواء ثورة تونس، التي قامت من أجل التغيير وتصحيح الأوضاع، شاهد الابن تضحيات شعب تونس ونضال أبيه المحامي الحقوقي "حبيب" ورفاقه من أجل الإصلاح والحرية ضد القمع والقتل والاغتيالات وعايش مع أبيه عذاباته وهواجسه التي تحولت مع الوقت لهلاوس وكوابيس ليست في المنام فحسب، بل في أحلام اليقظة، فرهافة حس الأب وما عايشه من ضغوط وما تعرض له من مضايقات وملاحقات، ثم ذهب كل ذلك مع الريح، وكأنه كان قبض ريح فجعل منه كل هذا إنسانا محطما، بل وكأنه صار حطاما يعيش حالة من الفصام والرهاب ورفض الواقع فعاش في خيالاته كي يستطيع البقاء.
فبالخيال والحلم بالغد والحرية فقط يستطيع "حبيب" الحقوقي الصمود أمام كل ما يعايشه من يأس وقلة حيلة لاستكمال المسير، وأصبح ابنه "المعادل الموضوعي" للغد هو من يراعيه رغم أنه طفل وبحاجة لرعاية من أبيه، خصوصًا بعد أن هجرتهما الزوجة وأم الطفل التي لم تستطع تحمل هلاوس وضلالات الزوج وانفصاله عن الواقع و تشبثه بالمستحيل وحلمه المستمر الذي لا يتحقق، بل ولا توجد أي بارقة أمل لتحققه في الواقع الآن، وآمن الطفل بأبيه، وفي نهاية الفيلم وعند اعتقال الأمن لأبيه من جديد ركض الابن وراء السيارة التي سار بها معتقلو أبيه وهو يردد ذات الشعارات والمطالب التي طالما نادى بها الأبد.
وهنا فقط وفي لحظة النهاية تلك، ظهرت ولأول مرة علامات الفرح والرضا على وجه حبيب الأب الذي اطمئن للغد الذي طالما سعى إليه وحلم به واثقًا من أن جيل الغد سيحقق ما فشل هو في تحقيقة طيلة حياته، وبالتالي فلم تذهب تضحياته أو تضحيات شعبه سدىً.. لذلك اختار العابدين اسم "غدوة" لفيلمه الأول وهي كلمة تعني بالدارجة التونسية "الغد" وآثر أن تكون افتتاحية الفيلم وعرضه العالمي الأول في القاهرة ومهرجانها العريق، رغم أن مهرجان بلده - العريق أيضًا- سبق مهرجان القاهرة بحوالي شهر، وهو مهرجان قرطاج السينمائي الدولي، وهذا ذكاء ولطف، بل وتقدير من ظافر العابدين لمصر وجمهورها ومهرجانها الكبير واعتراف وفهم منه لقيمة مصر وريادتها في عوالم الفن والسينما، خصوصًا وأن مهرجان البحر الأحمر الذي تهافت عليه متهافتون كثر افتتح فعالياته بعد يوم واحد فقط من ختام مهرجان القاهرة، وظهر العابدين في فعالياته، أما عرض فيلمه فكان في مهرجان القاهرة، والذي خصه ظافر بفيلمه في عرضه العالمي الأول، بل وسمح للمهرجان بثلاثة عروض في إطار فعالياته، وأقبل الجمهور المصري على مشاهدة فيلم ظافر والتقاط الصور معه، وحرص هو أيضًا على ذات الشيء وعلى التواصل مع الجمهور بمنتهى اللطف والأريحية ودون استعلاء وأظهرت الجماهير حبًا حقيقيًا لظافر يستحقه؛ لأنه يحمل بداخله تواضعا ورقيا ظاهرين لا تخطئهما العين إلى جانب المهارة والجدية والاحترافية في كل ما يصنع.
فظافر العابدين ليس فقط ممثلا متمكنا ولديه حضور وكاريزما وقدر كبير من الوسامة، بل شابًا مثقفًا يجتهد ويدرس وليس دخيلاً على عوالم الفن ولم يقتحمها من بوابة الشكل والمظهر فقط وإن سجنته الوسامة وقولبته في أدوار تدرب فيها على حرفية التمثيل حتى ظهر غول الفن الكامن بداخله، والذي أخرجه دفعة واحدة في أول أفلامه "غدوة" الذي كتبه وأخرجه ومثل فيه، بل وشارك في إنتاجه وكانت خطوة مهمة لا بد منها، فإن لم يغامر هو بماله الخاص فلن يجد منتجًا يغامر من أجل اسمه كمخرج فبدأ بنفسه واتخذ وبشجاعة تلك الخطوة الأولى، والتي وضعته في مكان آخر وصار في مصاف صانعي الأفلام والمبدعين وليس مجرد ممثل شاب وسيم.
واعتقد أن العابدين سيجد لاحقًا من يتحمس لانتاج أفلامه كمخرج أو كممثل- على أقل تقدير- وستفتح له السينما أبوابها باتساع ولن يصبح ظافر من نجوم الشاشة الفضية فقط، بل سترحب به الشاشة الذهبية ليكون أحد نجومها وأبطالها.
ولكن لماذا "غدوة" الآن ولماذا فيلم تونسي؟ أسئلة بالتأكيد تبادرت لأذهان كثيرين، وفي رأيي أنه اختار أن يبدأ مشواره في عوالم السينما والإخراج والتأليف من تونس "بلده الأم" ليجرب نفسه ويرى ردة فعل الجمهور عليه كمؤلف ومخرج قبل أن يكون ممثلا.. فغدوة كان بالونة اختبار أطلقها ظافر ليرصد ردود الأفعال هنا وهناك وخصوصًا في مصر.
وشاهد ظافر بنفسه ردة فعل الجمهور على فيلمه وردود أفعال الصحفيين والنقاد واستقبالهم عمله الروائي الأول، ليطمئن ويستكمل طريقه الذي حلم به طويلًا وخطط له ويحققه الآن، بعد أن قام بالخطوة الأولى، ويعيش حاليًا مرحلة الحصاد، حصاد نجاح تلك التجربة وأن تدر عليه لاحقًا تجارب أهم بعد أن وجد لنفسه موطئ قدم في عوالم السينما.
والبداية في تونس سينمائيًا كانت هي الأسهل بلا جدال، أما الانتشار والنجاح الجماهيري فلن يتحقق له سوي في مصر، وهو يعي ذلك جيدًا وأعتقد أنه في الفترة المقبلة سيتقدم بمشاريع أفلام أخرى ولن يتوقف وستعرض عليه أيضًا سيناريوهات سينمائية، وستفتح له السينما أبوابها في الشرق كما حدث معه في الغرب وتحديدًا في فرنسا، التي كانت له فيها تجارب سينمائية لا يعرف الجمهور العريض عنها الكثير، فظافر العابدين أثبت في فيلم غدوة أنه مشروع فنان متكامل وليس فقاعة ستنتهي أو تخبو مع الأيام.