رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الكتابة» وطنى وشغفى.. فرحى ونزفى.. بيتى وقبرى

هى وحدها وهبتنى معنى حياتى، وأمطرتنى بثمار الاستغناء عن ملذات تشمئز منها روحى، ويتقزز لها جسدى.
هى وحدها، المناعة ضد فتك الفيروسات، وغدر الأمراض، أنانية الأصدقاء، وغيرة الصديقات.
وحدها صومعتى الدافئة، حينما يبخل الزمن البارد بغطاء يلفنى، ويعجز قوامى الطويل الممشوق عن دفع الثمن المطلوب.
هى شرنقة الأمان، تشبع جوعى، تروى ظمئى، تسلينى، تؤنسنى، تعزينى، تعوضنى عن سرقة البيت والسطو المسلح على عمرى القصير.
كلما التقيتها تكون "ليلة زفاف" على فارس وسيم الملامح والخلق والطباع، لا يفض غشاء البكارة، ويرفض أن يمس امرأة غيرى.
وعدتنى أن تبقينى شامخة فى السماء لا أنكسر ولا أنهزم، لا أجزع إذا منحتها أيامى المعدودة على الأرض.
أهدتنى اسمى وعنوانى ولون عيونى وغجرية شعرى الأبيض وجواز سفرى، لا غيرها ستبقى معى فى زمن الشيخوخة بعد رحيل أحبائى وتجاعيد المرآة المشروخة.
ستكون وحدها "العكاز" الوفى الذى يحمينى من السقوط، يلتقطنى من الوقوع، يبعد عني سحابات القنوط، يعاشرنى دون قيد أو شروط.
بعد أن فقدت أحضان أمى الحانية، الدافئة، أمطرتنى بدلال سخى العطاء، وأمومة نادرة، أرضعتنى النعيم، جعلتنى أسافر إلى كل الدنيا، وأنا مازلت فى رحمها، ستكون هى "الأم"، على صدرها أشكو وأبكى وأغفو.
عندما ألفظ أنفاسى الأخيرة، ستكون هى الكفن الساتر اغترابى، والقبر المحاط بالورود الصفراء التى أحبها، والتراب الذى أخيرًا ينهى أرق الليل، ونومى المتقلب على الأشواك.
"الكتابة" ما أروع أن تكون همى وشغفى ونزفى وسريرى ووسادتى، هنائى وألمى.
ما أجمل أن تكون "الكلمات" قَدَرى، وطرقات اللغة بيتى، ما ألذ أن أقضى العُمر، فى اصطياد "الكلمات"، لا العرسان.. وأن أجلس بالساعات أمام الصفحات البيضاء، لألونها بخواطرى، لا أمام المرآة أتجمل وأتعطر وأتزوق وأزيل الشَعر الزائد لإرضاء رجل أو إسعاد زوج، أو التنافس المضحك الذى تمخض عنه فكر الذكور، فيتكرم القدر ويمنحنى لقب ملكة العرب، أو ملكة جمال كوكب الأرض، أتمختر على السجادة الحمراء، وتنهال علىّ عقود التمثيل فى السينما، وعروض الأزياء، وتقديم برامج ساخنة فى الفضائيات، وعمل إعلانات الصابون والزيوت وكروت الشحن.
ما أحلى أن أقوم بتفصيل الكلمات على مقاسى وذوقى، ومواسم عواطفى، وفصول أمزجتى يرتديها الكون، يصبح أكثر بريقًا وإلهامًا، يرسل امتنانه بإرسال المزيد من "باترونات" الأبجدية، يعدنى بتوفير جميع أقمشة اللغة.
لا أقوم بتفصيل ملابس لأطفال لا يحملون إلا اسم الأب، ويلقون باسم الأم فى سلة النفايات والسخرية والعار، لكن لا بأس من شراء هدية مخادعة لها تنسيها أن "تخرس" حين يتكلم ذكر البيت المُهاب، وأن عمرها ضاع هدرًا بين روائح غرف النوم والمطبخ، متظاهرة أن "التضحية بالذات" هى الفضيلة الكبرى، جائزتها "الجنة تحت أقدام الأمهات" فى اليوم الآخر.
ما أمتع اللحظات التى تأخذنى إلى "كلمات" تعرى الكذب، تكشف الأوصياء على عقول وأجساد النساء لإطفاء شهوات مكبوتة، حيث إن الكبت من الثوابت التى ترسم هويتنا ومن الوفاء والواجب والأخلاق القويمة والرجولة، الحرص على استمرارها وترميمها وتبريرها.
كم أنا محظوظة لأن الكتابة، هى طريقى المختصر للقفز فوق العبث واللاجدوى والعدمية، انتشلتنى من العفاريت والأشباح التى تسكن روحى، وتشوش على بصيرتى، أخذت بيدى إلى أفخر أنواع الزهد والاستغناء.
شكلتنى "الكلمات"، وأنا جنين لم يتشكل بعد، حينما كنت أرفض الطعام وأواصل البكاء وأظل "أحرك وأفرك"، كانت أمى تسرع وتحضر لى ما يسكتنى، ويهدئنى، ويجفف دموعى، ليس عروسة بلهاء لأتدرب على الأمومة المقدسة التى لا أحبها ولا أقدسها، وليست لعبة ذكورية تمهدنى لأصبح فى عصمة رجل، ولا تقوم أمامى بتلك الحركات البهلوانية المضحكة التى تعجب الأطفال، لكنها تسرع وتحضر لى القلم والأوراق.
نعم كنت "أشخبط" وأملأ كل الأوراق، بصور غير مفهومة، عندما أفكر الآن، أشعر بأننى عبرت عن تمردى، كتبت أجمل أشعارى، تخيلت عالمًا أعدل وأجمل داخل تلك الشخبطة، ورسمت مصير حياتى، فى تلك الصور التى لم تكن تعنى إلا شيئًا واحدًا، سأكبر لأصبح كاتبة وحرة وشاعرة، لا يعترف بها كهنة الِشعر، وامرأة لا تعترف بالنساء والرجال المقيمين فى الفنادق الذكورية ذات الخمسة نجوم.
كم أنا سعيدة الحظ، لأن الكتابة اختارتنى، لأن أكتبها وأفعلها وأمجدها وأشتهيها، وأعيش معها، وأهب لها نفسى وحياتى، لا أتقن شيئًا مثل خلط مقادير ومكونات اللغة، لأصنع أشهى فطائر الجدل والصدام والدهشة.
كل شىء حولنا فى الحياة، "كلمة" هى البدء وهى المنتهى، "الكلمة" من أجلها تصنع الأوراق والأقلام، وتؤسس الصحف، وتنشأ المكتبات والمعارض، وتُمنح أرفع الأوسمة والجوائز.
الكتاب حتى لو كان مجلدًا من ألف صفحة أو موسوعة ضخمة، هو فى النهاية يقول "كلمة"، فى النهاية يرسل لنا عبر آلاف السطور "كلمة" واحدة، كثير من الناس يقرأون جيدًا الألف صفحة أو المائة صفحة من الكتاب، يحفظونه من الغلاف إلى الغلاف، ومع ذلك عجزوا عن التقاط "الكلمة" التى من أجلها قام المؤلف أو المؤلفة بجهد كتابة الألف أو المائة صفحة.
وأى كاتبة وأى كاتب رغم تعدد وكثرة مؤلفاته، يُختصر فى "كلمة"، كل كلمة هى امتداد لـ"مزاجي"، وحالتي النفسية والعاطفية والجسمية، لا أؤمن بكلمة ليست تنتمي إلى أوجاع وأحزان وأفراح وأحلام "ذاتي"، لا أكتب حرفًا لا يحمل فصيلة دمي ولا يشكل لونًا أو خطًا أو ظلًا في لوحة وجهي.
ولهذا فإن الكتابة بكل بساطة هى "جنتى" وإن كنت أكتب عن الجحيم، بكل بساطة أكتب عشان  "أستلذ" واستمتع وأفرح بنفسى وأنتشى حتى الثمالة من مداعبات اللغة ورحيق الكلمات وعناق الأفكار.
إننى عاجزة حتى الشلل، عن افتعال لذة الكتابة، واستحضار نشوة هذا العناق، وتمثيل دور المستمتعة المتمزجة بفعل الكتابة، مثلما هناك امرأة تفتعل الشعور باللذة الجنسية، وتمثيل الوفاء الأنثوى، الموروث عُرفًا، المرضى عنه شرعًا، حتى لو كانت تكره وتشمئز.
توجد أيضًا المرأة الكاتبة التى تفتعل لذة الكتابة وتقدم دور الكاتبة الملتزمة بالمواعظ الذكورية للنقاد، وبإرضاء المهيمنين على "تلميع" أو "إطفاء" منْ تمسك بالقلم.
ممارسة الكتابة مثل ممارسة الحب، تفترض مسبقًا العاطفة الجياشة، والحرية، والدهشة، والحنين، والغموض، والتركيز، والهدوء، والخيال، والانفتاح على طاقات وأسرار، والوصول عبر الجمال إلى محطات جديدة ساحرة من اكتشافنا لذواتنا وللآخر وللكون.
"القلم" رجل لا أقربه ولا ألمسه إلا إذا مت اشتياقًا إلى أحضانه.
صدق نيتشه، فيلسوف أدين له بالكثير حين قال: "لا أحب إلا الكتابات المكتوبة بدم الإنسان".
كلماتى منذ البداية وحتى النهاية، هى "دمى" النازف بغزارة، لكننى ويا لدهشتى وسعادتى لست أحتاج إلى "نقل دم"، إنه النزف الذى يبقينى فى أكمل صحة، مثل الحصان الجامح برشاقة، يقفز فوق الحواجز للسباق مع نفسه، مدركًا أنه لن يحصد إلا جائزة من الخيال.
تجعلنى "الكتابة" أشعر بأننى "إلهة"، أصنع المعجزات والأشياء الخارقة، لكننى لا أطمع أن يؤمن بى أحد، ويقدم لى قرابين العبادة والولاء.
"الكتابة" موتى ولحظة قيامتى.