رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«حقوق الإنسان» بين سُلطة السماء وسُلطة الضمير

فى 10 ديسمبر 1948، تم اعتماد الميثاق العالمى لحقوق الإنسان. أليست حقيقة مؤسفة، أن العالم كله، بعد ثلاثة وسبعين عامًا، من وجود هذا الميثاق، ما زال يشهد أشكالًا ودرجات مختلفة، من انتهاكات صارخة،  لبنود الميثاق العالمى لحقوق الإنسان. 
بل إننى أزعم من متابعتى أخبار كوكب الأرض، أن «حقوق الإنسان»، أصبحت محنطة فى المتاحف، مثل التماثيل، والكائنات المنقرضة. 
المفارقة المحزنة أن العالم قد وصل إلى اكتشافات طبية وعلمية وتكنولوجية، فى المائة عام الماضية، أكثر مما اكتشفه على مدار التاريخ البشرى.

ومع لك، فإن انتهاكات «حقوق الإنسان» فى المائة عام الماضية، قد أصيبت فى العالم كله، بضربات فى مقتل، لا تتناسب مع الثورة العلمية والتكنولوجية والطبية الحادثة.

المفروض والمتوقع أن الاكتشافات تسعى فى نهاية الأمر، إلى تحسين أحوال كوكب الأرض، ما يعنى ازدهار «حقوق الإنسان»، وبلوغها آفاقًا جديدة، تحقق سعادة البشر، وتمتعهم بالعدالة والحرية، والعيش فى بيئة صحية متوازنة.

المفروض أن أى اكتشاف لا يؤدى إلى انتشال البشر من الفقر والعجز والبطالة والمرض والقهر والتعاسة والإحباط يُلقى فى عرض البحر، فما الفائدة منه؟؟.
كل اكتشاف يستلزم إنفاق مبالغ خيالية على مدى سنوات من البحوث والدراسات والتجارب. فإذا كان بعد كل هذا العناء، لن يفيد غالبية البشر، نساء، ورجالًا، وأطفالًا، فليذهب إلى الجحيم. 
   وإذا كنت أتكلم عن مصر، وطنى، وبلدى، وشغفى، وهمى، وبيتى، ومسقط رأسى، 
ورقدتى الأبدية، فلا بد أن تؤرقنى «حقوق الإنسان» على أرضها.
 وأنا لست منشغلة بحقوق الإنسان، فى المجالات السياسية والاقتصادية والبيئية والصحية والثقافية. هذا ليس معناه أن هذه الحقوق غير مهمة، أو أنها قد تحققت واكتملت. هى بالطبع مهمة، وتؤثر فى بعضها البعض، والتغير فى مجال منها، يلقى بنتائجه على المجالات الأخرى، هذا بديهى. 
      ولكننى مهمومة ومنشغلة ومؤرقة أكثر بحقوق الإنسان المصرى والإنسانة المصرية، فى تغيير وتجديد وتحديث وتثوير وأنسنة «الخطاب الدينى»، و«الخطاب العقائدى»، و«الخطاب الإيمانى». 
  ولهذا أسباب وجيهة. أولًا، لأن الدين، قضية حساسة عند الشعب المصرى، محاطة بقدسية مبالغ فيها. ثانيًا، لأن على مدى النصف قرن الماضية، تعرضنا لهجمات شرسة 
مسالمة، ومسلحة، من الخطاب الدينى السلفى متنمر الذكورية، المتشدد المتزمت، المستورد من الصحراء الوهابية، والذى اخترق الإعلام والثقافة والفن والمؤسسات الدينية، احتل البيوت، والعقول والقلوب والمزاج الشعبى العام. ثالثًا، يؤكد لنا التاريخ، أن الشعوب التى تقدمت إنسانيًا وحضاريًا هى الشعوب التى أخضعت الأديان لتشغيل العقل، والانحياز إلى العدالة والتحرر من كل القيود، وصنع علاقة جديدة بين الإنسان والدين، بين العقيدة والحياة المتغيرة المتجددة، بين الطقوس الدينية ومغزاها وأهميتها. 
فى هذا السياق، ومن هذه المنطلقات، أود طرح بعض الأفكار، التى تصب مباشرة فى تغيير وتجديد، وتثوير وأنسنة «الخطاب الدينى».
        أولًا،  إن القيم الأخلاقية النبيلة، مثل الصدق، والأمانة، يجب أن نسلكها،
«حبًا»  فيها. وليس «خوفًا»، من العقاب الإلهى، أو ما يعرف بالوازع، أو الرادع الدينى.  
     إنها حقًا ملاحظة جديرة بالتوقف.. إننا بلد متخم بالمواعظ الدينية، والفتاوى
الدينية، والبرامج الدينية، واللغة الدينية.. وخطب كل يوم جمعة فى الجوامع، والمساجد التى تستخدم الميكرفونات العالية، كلها وازعات، ورادعات دينية، وحض على الأخلاق الدينية، والسلوكيات الدينية... ومع ذلك نحن نشهد تدهورًا فى الأخلاق المستقيمة، وانحدارًا فى غياب الضمائر الحية فى كل مجال. حتى الجرائم الجنائية فى المدن والأرياف، أصبحت تتسم بطابع وحشى، متنمر، لأسباب تافهة، لم نكن نعهدها من قبل. السرقة، والخطف، والقتل، والذبح، والتمثيل بالجثث، بدم بارد، تزداد نسبته، وبشاعته. أقول هذا، لأننى أتابع يوميًا ومنذ سنوات، الجرائم فى مصر. 
       ودائمًا ما تساءلت، وما زلت أتساءل: لماذا فشل الخطاب الدينى، فى تهذيب وتحسين الأخلاق، والإقلال من الفساد، ومعدلات الجريمة، وايقاظ الضمائر النائمة، وتنظيف النفوس العفنة، والذمم الخربة؟؟.
          الحقيقة.. أو المفارقة.. أن مع كثرة التحذير من عقاب الله، فى الإعلام، ومن قبل المؤسسات الدينية، والبرامج الدينية الفضائية والأرضية، ومن منابر المساجد والجوامع، كل يوم جمعة فى الصلاة الجماعية، فإن الصرط المستقيم للأخلاق، ليس مستقيما، بل يزداد اعوجاجًا، وانحرافًا.
     وأعتقد أن السبب، هو أن الخطاب الدينى، يقوم على شدة  «التخويف»، من 
سُلطة «خارج» الإنسان، تتربص به. 
     إن  «الصدق» ، أو «الأمانة»، فضيلة، لأننا «نختارها» بكامل الإرادة والأريحية،
بتفضيل من وعينا، ومبادئنا، وحريتنا. الصدق الذى «نُجبر» عليه كذب. والأمانة التى
تفرض «بالإكراه» هى باطلة،  والإنسان، الذى تُفرض عليه الفضيلة، يصبح عنيفًا، ومتناقضًا، وقدوة سيئة للآخرين.
  هناك الملايين فى العالم، الذين «لا دين لهم»، سماويًا، أو أرضيًا، ولا ينتظرون مكافأة لا فى الدنيا، ولا فى الآخرة، على أفعالهم الحسنة.  لكنهم خيرون، قولًا، وفعلًا، 
يتحلون بمكارم الأخلاق، بـ«وازع»، من ضميرهم الإنسانى الحر، وليس بسبب جهر الميكرفونات بالتخويف المستمر  من عقاب الله. 
       ثانيًا، «ربنا»، ليس كلام الخطباء فى الميكرفونات الصاخبة، الذى يخيفنا من سلطة السماء. لكنه الاقتناع الهادئ، بأن استقامة الأخلاق هى الطريق المختصر، للسلام، والأمن، والسعادة. 
     و«ربنا» ليس سلطة سماوية غير مرئية، توهبنا، وتروعنا، وتتربص بنا لكى توقعنا فى شر أعمالنا. «ربنا»، هو صوت الخير، والفرح، والفهم، واشتهاء الحياة، ومساعدة الناس، والإنتاج المثمر، والعمل الذى يبنى ويعمر وينفع البشرية. 
   ثالثا، إن الثورة الدينية، التى نحتاج إليها، لا بد أن تجيب عن أسئلة أساسية. 
هل الدين فى خدمة الحياة، أم الحياة فى خدمة الدين؟. هل الدين، يحتاج إلى وسيط  بين الإنسان، وربه؟؟.  
هل نحن جادون فى تحرير النساء من القهر الذكورى؟. هل نؤمن حقًا بالدور الكبير للفنون، والابداع، فى هذه الثورة الفكرية الدينية؟؟. 
هل الشعب المصرى يشتهى فعلا «الحرية» والتخلص من أوصياء الدين، والمتاجرين به، والغاء خانة الديانة، وإقرار زواج مدنى موحد؟؟.  
 رابعًا، لا بد أن نأخذ قضية تغيير وتجديد وتثوير وأنسنة «الخطاب الدينى» مأخذ الجد. يؤسفنى القول، إننا حتى الآن مازلنا واقفين متجمدين فى عنق الزجاجة السلفية الضيقة الصدئة. كيف نعهد لمنْ تسببوا سنوات طويلة، فى الأسلمة الشكلية الاستعراضية السلفية، المحافظة شكلًا وموضوعًا، بأن يكونوا منارة التغيير والتجديد والتثوير والأنسنة؟؟. مستحيل.
كيف للأبجدية القديمة، أن تكتب كلامًا جديدًا؟؟. واللحن المغاير، لابد له من نوتة موسيقية جديدة. هذا بديهى، ومنطقى.   
كيف التجديد، وأحزاب المرجعية الدينية، نشطة، وتروج للفتاوى السلفية، المستوردة؟؟؟، والتفسيرات الدينية الجديدة، المسالمة، لا تحمل أسلحة قتل مادى أو معنوى، مدانة بالكفر والارتداد، عن الدين ؟. كيف نجدد وقضايا التكفير الدينية تطارد منْ يفتح فمه برأى مختلف فى الطقوس كيف يتجدد الخطاب الدينى، والمحاولات كلها، تشرب من البئر نفسها؟.   
  يؤمنون بإله واحد فى السماء، يقول: «لا إكراه فى الدين»، ولكن الحقيقة أن هناك مائة مليون على الأرض، يكفرون، ويشتمون، ويشوهون، ويهدرون دم أصحاب الفكر الدينى.
خامسًا، تجديد الخطاب الدينى، إذن، يسبقه تجديد خطاب الحياة. ومثلما يتضمن 
تجديد «الخطاب الدينى العقائدى»، لا بد أن يصاحبه تجديد «الخطاب اللادينى اللاعقائدى»، تحقيقًا لحقوق الإنسان، فى أول وأهم مبادئها. 
     سادسًا، «خير أمة أخرجت للناس» ، هى الأمة التى تنفع الجنس البشرى، فى حياته، وعلمه، أمة عفيفة اللسان، لا تعرف الشتائم والبذاءات، أمة تنتج وتكتشف وتمحو كل أنواع الوصايا على البشر، أمة غير ذكورية، أمة تؤمن بالعقل المنطقى الناقد المبدع، أمة قوتها ليست فى العدد بالملايين والمليارات، وإنما هى قوة العقل وعدالة الثقافة والقانون والتقاليد، أمة لا تفرق بين الأديان، لا تستعلى على أمم أخرى، لا تستحقر أممًا أخرى لا تتبع دينها، أمة لديها الشجاعة لكى تنقد أخطاءها وتعالج أمراضها المتوطنة، وعيوبها المتأصلة، وتسترها المقيت على سلبياتها، أمة لا تتعاطى المسكنات ضد تخلفها، وجريها وراء الخزعبلات والخرافات وتغييب العقل.أمة تستجيب للتغير وتجدد الحياة.     
         هكذا لا بد أن يكون اعتقادنا، لكى نتخطى كبوتنا الحضارية التى طالت.