رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محاكمة فريدة تجمع رئيس دولة وقائدًا لخلية إرهابية «2»

أمام المحكمة الجنائية الخاصة التى شكلت فى باريس؛ للنظر فى الجرائم الإرهابية التى نفذتها تلك المجموعة الإرهابية يوم ١٣ نوفمبر ٢٠١٥، جاءت أولى كلمات «صلاح عبدالسلام» قائد هذه الخلية أمام قضاة المحكمة بعد سنوات من الصمت التام، ليقول بصوت عال إنه «تخلى عن كل المهن ليصبح مقاتلًا لداعش». صمت صلاح كليًا منذ ألقى القبض عليه بمعرفة الأمن البلجيكى فى مارس ٢٠١٥، بعد أن أمدهم جهاز مكافحة الإرهاب الفرنسى بكل المعلومات المتعلقة به، ووصفته حينها بـ«القائد» الذى خطط وتنقل وساعد على انتقال العناصر الإرهابية المشاركة، من مدن أوروبا المختلفة وصولًا إلى قلب باريس بأسلحتهم وذخائرها وأحزمتهم ومواد صناعة عبواتها الناسفة.

عبدالسلام الشاب الفرنسى ذو الأصول المغربية، بعد تمكنه من إطباق الصمت طوال ٥ أعوام مثلت فترة التحقيقات الأمنية الذى أربك قليلًا رجال أجهزتها، بدا فى قاعة المحكمة أمام القضاة المحترفين، وقد عدّل من تكتيك مثوله أمامهم وانطلق فى الحديث معهم من اللحظة الأولى، حتى عندما لم يدع إلى ذلك. ربما أراد أن يرسم لهم وللمتابعين صورة بعينها تعبر عن معاناة استثنائية، يقع تحت وطأتها طوال تلك السنوات، وهذا جعله يقف ومن خلف الكمامة يرفع صوته ويوجه إصبعه إلى أعضاء المحكمة قائلًا «هنا المكان جميل جدًا. هناك شاشات مسطحة، ومكيفات هواء، لكن هناك فى السجن، نتعرض لمعاملة سيئة تمامًا مثل الكلاب. أعامل مثل كلب منذ ٦ أعوام، لم أشتك قط لأننى أعلم أننا سننتعش وستحاسبون». استفزازات المتهم لم تؤثر على رئيس المحكمة «جان لوى بيرييى»، ولم تلق صدى لدى المتابعين الآخرين الذين يصلون لقرابة ١٨٠٠ من أطراف الادعاء المدنى وحدهم. هذا الغضب الصاخب كان يتغير كليًا بمجرد توجيه أسئلة محددة من المحكمة، حيث ظل يتحدث معهم برزانة ملحوظة وبتعقل مقصود، بداية من تأكيده أنه لا يحمل سوى جنسية واحدة «الفرنسية» رغم ولادته فى بروكسل سبتمبر ١٩٨٩، إذ عاش والداه فى فرنسا قبل الانتقال إلى بلجيكا، مما سهل حصوله واحتفاظ أسرته بجنسيتها الفرنسية.

وصف عبدالسلام نفسه بـ«الطالب المجتهد» فى سؤاله عن طفولته، التى اعتبرها «بسيطة للغاية»، وهو عضو فى أسرة تضم ثلاثة أشقاء أكبر منه وأختًا أصغر. وبذات الهدوء والرزانة حاول المتهم أن يبرئ ساحة بعض المتهمين خلال حديثه مع القاضى، مشيرًا إلى محمد عامرى ومحمد بقالى وعلى ولكادى باعتبارهم أسدوا له خدمات من غير أن يكونوا على اطلاع بحقيقة ما يقوم به، حيث قاموا بنقله إلى أماكن أخرى دون مقابل، ووفق ما حاول أن يشير له صلاح للقاضى أنهم مسجونون من غير أن يرتكبوا أى جرم. لكن القاضى لم يقف طويلًا أمام هذه المناورة للتبرئة، خاصة وكل من «بلدية باريس» تريد أن تكون جهة مدعية وكذلك ملهى «باتاكلان» وكل المطاعم والمقاهى التى أصيبت ليلة الهجمات، وجميعها قدمت أسماء هؤلاء باعتبارهم خصومًا تسببوا فيما وقع من ضحايا وخسائر مادية. وفى تلك الزاوية الشائكة كانت محامية الدفاع عن صلاح عبدالسلام «أوليفيا رونين» تستعد لخوض غمار هذا الجانب المعقد، باعتبار أن المدعين يمتلكون وزنًا اعتباريًا لا يستهان به أمام قضاة قصر العدل الفرنسى، خاصة «بلدية باريس» التى تجهزت بطاقم قانونى مستعد بشكل جيد وواف للنيل من أعضاء الخلية التى يقودها عبدالسلام، ويمتد أيضًا ليشمل جميع مساعديهم ومقدمى الخدمات اللوجستية التى مكنت من إنفاذ هذه العمليات القاسية.

من المفاجآت التى ظهرت أثناء التحقيقات، وما هو موجود أمام قضاة المحكمة ويرونها ستشكل معضلات حقيقية، أن صلاح عبدالسلام الذى ظل سنوات فى المخيلة العامة إرهابيًا خطيرًا ونافذًا، يضرب ذلك مجموعة من التساؤلات الجوهرية أولها لماذا انتهى به الأمر إلى كونه الوحيد الذى نجا من الهجمات؟ وعبدالسلام نفسه قدم روايات متضاربة حول هذا الأمر المحورى، فهو أخبر أصدقاء له كما شهدوا لاحقًا أنه قرر فى اللحظة الأخيرة عدم تفجير نفسه، لأنه كان سيكون هناك الكثير من الشباب بين الضحايا. لكنه عاد ليقول لنفس الأشخاص أيضًا إنه تفاجأ بأن حزامه الناسف معطل، فى حين كشف فحص تقنى للحزام بمعرفة الأمن الفرنسى أن أحد المفجرين كان سليمًا، لكنّ سلكًا كهربائيًا صغيرًا تعرض للتلف، وقد اعتبر المحققون وفق ما كتبوه بتقريرهم أنه ربما تم قطعه عن عمد بقاطع الأسلاك. فقد ثبت وضع عبدالسلام حزامه الانتحارى فى سلة مهملات فى «مونتروج» جنوب باريس، بعد أن قاد ثلاثة مهاجمين إلى ملعب فرنسا، ثم اتصل بصديق فى بروكسل وطلب منه الحضور إلى باريس لاصطحابه، لذلك ثار تساؤل: هل هذا يعنى أنه لم يكن مقتنعًا بما يكفى بالمهمة المميتة؟ أم أنه أصابه الجبن الشديد، مما جعله يخرج نفسه بعد كل هذا الإعداد، من الفعل الإرهابى المباشر المتمثل فى تفجير نفسه كما الآخرين؟

المتهم «أسامة كريم» يعد العضو الأعلى رتبة فى تنظيم «داعش» بين جميع المتهمين، ذكر للمحققين أنه يعتقد أن صلاح عبدالسلام لم يكن ببساطة متدينًا ومتورطًا مثل الأعضاء الآخرين فى الخلية الإرهابية. فوفق تحليله للأمر وأقواله المثبتة بملفات القضية «لم يكن مثل أولئك الذين فجروا أنفسهم فى باريس. عشت مع مثل هؤلاء الناس فى سوريا، وصلاح ليس مثلهم. بالنسبة لى، هو مجرد شاب فقير يلعب دورًا لم يصنع له». وكريم اليوم متهم بالمساعدة فى تنظيم هجمات باريس، وهناك من يعتبره القائد الحقيقى الذى يخفى دوره الرئيسى رغم ما ذكره بحق عبدالسلام. وهناك من يربط بينه وشقيق صلاح الأكبر الذى كان عضوًا فى الفريق المكون من ثلاثة أفراد، الذى فتح النار على شرفة أحد المقاهى وذكر شهود العيان فى وقت لاحق أن المهاجمين بدوا وكأنهم كانوا يستمتعون بالمشهد وبأنفسهم، وهم يطلقون زخات بنادق الكلاشينكوف على الحشد من الموجودين بالمكان.

أهالى الضحايا حتى الآن يعربون عن غضب كبير، فهم يشعرون بأن المتهمين يتلاعبون بقضاة المحكمة، وأن محامى الدفاع عنهم بدأوا يرسمون لهم ممرات الخروج الآمن، باصطناع روايات متناقضة على ألسنة شهود عدة، بعضهم ممن كانوا على اتصال بهم أو آخرون شاركوا فى بعض فصول المذبحة. ولهذا خرجت صحيفة «اللوموند» بمانشيت لافت وهى تتساءل: «المتهم الرئيسى لم يعد هو نفسه». هل لأن محامى دفاعه نصحه بتغيير الاستراتيجية؟ أم لأن شهادة الضحايا وأهاليهم حصلت على المتهم بعد أن وقع كل شىء ومضى إلى سبيله؟ ربما تجيب فصول المحاكمة المثيرة عن هذا التساؤل الذى سيظل مفتوحًا، ربما لفترة ليست بالقليلة!