رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قوتنا الناعمة

«القوة الناعمة» مصطلح يتم تدريسه فى مناهج العلوم السياسية، يشير المصطلح إلى القوة غير الملموسة التى تملكها دولة ما، «القوة الصلبة» تعبر عن نفسها بالعتاد العسكرى، والنفوذ الاقتصادى، وكل ما يمكن قياسه أو عده... «القوة الناعمة» تعتمد على حضارة البلد، إسهامه الثقافى، إنتاجه من الفنون والآداب، والفكر.. أو كل ما لا يمكنك قياسه، لكنك يمكن أن تلمس أثره... لأسباب تاريخية معقدة امتلكت مصر أكبر رصيد من القوة الناعمة فى الشرق الأوسط لعقود طويلة.. هى بلد الحضارة القديمة.. حضارة الدين والفن.. القوة الناعمة عبّرت عن نفسها فى مشهد اختطاف الخليفة العثمانى عشرات الحرفيين والفنانين المصريين ونقلهم إلى الأستانة بعد غزو مصر... رغم قرون الركود وتراجع ثقافة العلم ظل الفن والدين ركائز قوة مصرية كبيرة ورايات مرفوعة لريادة مصر فى العالمين الإسلامى والعربى.. حين شهدت مصر محاولة النهضة الثانية بعد ثورة يوليو انتعشت القوة الناعمة المصرية لأقصى درجة.. كان الأزهر أكبر جامعة فى العالم الإسلامى.. كانت قيمته عند الدول الإسلامية غير العربية تكاد تقترب من التقديس.. وعى الرئيس جمال عبدالناصر ذلك وقام بتطوير الأزهر، أدخل العلوم المدنية، وكان هدفه أن يسهم خريجو الأزهر فى تنمية إفريقيا وآسيا مسلحين بجرعة ثقافية دينية تلبى شوق مسلمى آسيا وإفريقيا للأزهر.. مات عبدالناصر ولم تسر الأمور فى هذا المسار.. على مستوى الفن كانت شوارع العالم العربى تخلو من المارة حين تغنى أم كلثوم فى الخميس الأول من كل شهر.. كانت السينما هى المصدر الثانى للدخل القومى بعد القطن، وكانت اللهجة المصرية تجمع شعوب العالم العربى.. أيًا كان ما حدث فى السبعينيات، وسواء كان أثرًا طبيعيًا لهزيمة يونيو، أو نتيجة تغيرات سياسية فى المنطقة، أو تراجعًا فى كفاءة الدولة المصرية، فقد تراجعت مقومات القوة المصرية الناعمة، وظهرت الآثار على أوسع ما يكون فى الثمانينيات.. وبدا أن هناك من يستهدف مقومات القوة المصرية.. فعلى مستوى الفن، نشطت شبكات واسعة لتحجيب الفنانات، وإغرائهن بالاعتزال، وتقديم العروض المادية المغرية لترتيب حياة ما بعد الاعتزال، وكانت جماعة الإخوان تلعب دور المحرك الخفى، والوكيل المحلى لقوى خارجية تغار من قوة مصر وزهوها بفنها، وشارك بعض الدعاة بأدوار واضحة فى هذا المخطط.. وفى إقناع الفنانات بالاعتزال وهو ما تسجله كتب معروفة ومنشورة.. ولم يكن هذا كل شىء.. إذ واصل البعض إهانة كبرياء الفن المصرى.. وبعد أن كانت السينما تقدم أعمال محفوظ وإدريس وإحسان عبدالقدوس، ظهرت سينما المقاولات، وهى سينما للتصدير الخارجى لبعض دول المنطقة، حيث كانت الأفلام تصنع لجمهور الفيديو كاسيت الذى كان اختراعًا جديدًا وقتها، وكان الإنتاج يتم بسلفة خارجية من موزعى الفيديو فى الوطن العربى.. أهينت السينما المصرية بأفلام يتم تصويرها فى أسبوع، دون أى اهتمام بالإجادة، أو المستوى الفنى، واستنزفت مواهب مصرية كبيرة مثل سمير غانم، وسعيد صالح، تحت ضغط الرغبة فى العمل، ولم يكن ذلك المعول الوحيد الموجه ضد الفن المصرى، فمع منتصف التسعينيات ظهرت شركات تجمع أصول الأفلام المصرية، مع صمت وانسحاب من مؤسسات الثقافة المصرية، ثم نشرت «روز اليوسف» عشرات التحقيقات عن احتكار الأصوات المصرية لخمس سنوات، وتجميدها، والتوقف عن الإنتاج لها، مع موجة تصعيد لأصوات من دول أخرى.. كان هذا على مستوى الفن.. أما على مستوى الدين، فقد انتشرت تحذيرات من اختراق الأزهر العريق من تيارات فقهية متزمتة، كان الاختراق يعبر عن نفسه بطرق مختلفة، واستهدف إقناع أكبر عدد من الأساتذة والمعيدين الشبان باعتناق هذه المذاهب الفقهية، وتصدى عدد من أساتذة الأزهر للتحذير، كان منهم أستاذ الهندسة د محمد رضا محرم، والدكتور محمد أبوالإسعاد.. وآخرون.. ولم يكن هناك هدف محدد سوى تقليم القوى الناعمة المصرية، وتقليصها، وإتاحة الفرصة لقوى غيرها كى تتمدد فى المنطقة، لكن مصر التى وصفها الأبنودى قائلًا «ومصر عارفة.. وشايفة.. وبتصبر.. لكن فى لحظة زمن تعبر.. وتسترد الاسم والعناوين».. استردت نفسها بعد ٣٠ يونيو، وتولى أمرها من يعرف قيمة قوة مصر الناعمة والصلبة أيضًا، وظهرت شركة وطنية تشرف على أعمال تبث روح الوعى والمقاومة، وترعى جيلًا من الفنانين الواعين والوطنيين أيضًا، وظهرت موجة فى المجتمع تلفظ كل إنتاج لا يليق باسم مصر.. وبدا أن هناك انتفاضة ضد موجات من الغناء المبتذل، تنتج للاستهلاك الخارجى، وكأنها تضاهى موجة أفلام المقاولات الرخيصة، التى اندثرت، وداسها الجميع تحت أحذيتهم، ولم يبق سوى روائع السينما والموسيقى المصرية، وهو نفس ما سيحدث مع موجات الابتذال الحالية، التى يحاول البعض أن يصورها وكأنها انتصار للفن المصرى، وهو ابتذال لا يقل عن ابتذال هذه الأغانى نفسها، وكلاهما مصيره إلى مزبلة التاريخ.