رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفرنسى والجارية

جيرار دي نرفال رحالة وشاعر وكاتب فرنسي، يعشق الشرق منذ صغره، وكان في شبابه ينسخ فنون الخط العربي دون أن يتمكن من فهمه، وكان يحلم كثيرًا بألف ليلة وليلة، زار الشرق في يناير 1843 إلى نوفمبر من نفس العام، وكان في الرابعة والثلاثين من عمره أدخل المستشفى بسبب نوبة من الجنون، قام برحلته إلى الشرق في يناير سنة 1842، وصل إلى القاهرة في أعقاب وفاة محمد على وبداية عصر ابنه عباس الأول. كان نتيجة تلك الرحلة كتاب بعنوان "رحلة إلى الشرق" ترجمته الدكتورة كوثر عبدالسلام وراجعته الدكتورة سهير القلماوي. قبل أن يصل جيرار دي نرفال إلى القاهرة قام بالاطلاع على العديد من الكتب والوثائق، ولما وصل إلى القاهرة كان يتردد بانتظام على مكتبة أنشأها الفرنسيان بريس دافن والدكتور أبوت، وكانت بالمكتبة كتب تتحدث عن مصر، وكانت تلك المكتبة ملتقى المثقفين الأوروبيين في القاهرة. بدأ نرفال رحلته من باريس إلى مصر بالباخرة، كانت مصر وقتها محطة للرحالة والمغامرين والجواسيس الأجانب والذين بدءوا في التوافد على مصر من الدول الأوروبية وعلى الأخص فرنسا وبريطانيا بعد النهضة التي أحدثها محمد علي. قبل أن ترسو الباخرة في الميناء يستقل التراجمة القوارب، ويحاولون الصعود إلى الباخرة لالتقاط الأجانب الراغبين في اصطحاب تراجمة، لمساعدتهم في التعامل مع رجال الحكومة والأهالي. يعد الترجمان في ذلك الوقت بمثابة المرشد السياحي للأجنبي، ومن هؤلاء التراجم الترجمان عبدالله الذي رافق جيرار دي نرفال أثناء رحلته في مصر، صعد الترجمان عبدالله للباخرة بمجرد وصولها إلى مياه الإسكندرية في قارب مخصص له، كان عبدالله ككل التراجم في ذلك الوقت محاطًا بالأبهة والفخامة، وكان معه طاقم لمعاونته مكون من مساعد ترجمان حديث السن وزنجي يحمل له غليونه ويقوم على خدمته. لم يكن من بين القادمين على متن الباخرة ركاب من الإنجليز، وهو ما جعل عبدالله يقبل على مضض مصاحبة الفرنسي جيرار، فقد كانت نظرة التراجمة إلى الفرنسيين باعتبارهم أقل شأنًا من الإنجليز. ونظرًا لفقره وبخله، رفض نرفال أن يقيم في الفنادق الإنجليزية الباهظة، قاده الترجمان إلى فندق دويري في القاهرة، وهو ملتقي لكل الفرنسيين في مصر. رفض الترجمان عبدالله أن يقيم في فندق دومرج مع الفرنسي جيرار دي نرفال باعتباره فندقًا رخيصًا لا يليق بمترجم في درجة عبدالله، ومن ناحية أخري كان عبدالله يريد أن يحافظ على سمعته بالإقامة في الفنادق الفخمة التي تجتذب الموسرين من الأجانب، كان المترجم عبدالله يجد غضاضة في التردد على الفندق الفرنسي الرخيص، لأجل هذا اقترح على نرفال أن يقيم في بيت مستأجر في المدينة، ولما كان نرفال يريد أن يحيا الحياة الشرقية تمامًا كأهاليها ومواطنيها فقد استراح لفكرة المترجم عبد الله، وشرع بالفعل في البحث عن منزل. تجول نرفال مع الترجمان عبدالله في الحي اليوناني وحي الأقباط، لكنه لم يسترح إلى السكنى في قصور الحي اليوناني وانتهي به الأمر إلى بيت تمتلكه قبطية تسكن في حي الأقباط، وتم استدعاء شيخ الحي لكتابة العقد، وتسلم نرفال مفتاح بيته الخشبي، والذي كان عليه أن يعلقه في رقبته. وقام نرفال بتأثيث بيته بقفص كبير من الجريد صنعه القفاص تحت عينيه، وحضر المنجدون للمنزل بأدواتهم، وتم صنع وسائد وأرائك للجلوس، على أن تتحول الوسائد في الليل إلى مراتب للنوم. بات نرفال في منزله الجديد ليلة واحدة، وفي صباح اليوم التالي، جاء شيخ الحي ومعه كاتبه وزنجي يحمل له الغليون، وطلب من نرفال أن يغادر البيت، ويأخذ نقوده التي دفعها. ترجم له عبد الله حديث شيخ الحي مع نرفال على النحو التالي:  يجب ترك البيت. لماذا؟ - لأن أحدًا لا يعرف على أي نحو تعيش. هل لاحظ أحد أخلاقي السيئة؟ - ليس هذا ما يقصده شيخ الحي إذن فرأيه هذا ليس طيبا. - يقول إنه كان يظن أنك ستعيش في المنزل مع امرأة. ولكنني لست متزوجا. - إنه لا يعنيه في شيء أن تكون متزوجا أو لا تكون، ولكنه يقول إن جيرانك لهم نساء، وسوف يقلقهم ألا تكون لك امرأة، ومهما يكن فهذا هو العرف السائد في القاهرة. وماذا على أن أفعل؟ أخبره الترجمان عبدالله أن شيخ الحارة يسدي له النصيحة، ويقول له إن أفنديا مثلك لا ينبغي له أن يعيش بمفرده، وأنه من المشرف دائما أن تؤوي امرأة وتطعمها وتسدي لها الخير. وأحسن من ذلك أن تطعم الكثيرات منهن إذا سمح لك الدين الذي تعتنقه بذلك. وعندما حل الصيف على نرفال، كان يفضل أن ينام مستلقيًا على سطح منزله في الهواء الطلق. ذات صباح فوجئ نرفال بعدد من العمال يتقدمهم شيخ الحي، ثم بدءوا في الصعود إلى السطح، وباشروا العمل على إقامة حاجز بينه وبين البيت المجاور له، بحيث يحجب الرؤية عن الجيران، وأخبره شيخ الحي أن المنزل المجاور تقطنه امرأة "خاتون"، وأن المرأة تقدمت بشكوى ضده إلى شيخ الحي، لأنها رأته ينظر من سطح منزله إلى حديقة منزلها، وأخبره شيخ الحي أن الأمر يجب أن يسوى بذهاب زوجة نرفال إلى الخاتون، وعندها سينتهي الأمر. غير أن نرفال أجاب شيخ الحي بأنه غير متزوج، ولا توجد امرأة في البيت، وهنا أمهله شيخ الحي ثمانية أيام ليحضر امرأة، وإلا فإنه سيجبره على ترك البيت.. يتبع.